غزو الكويت والاعتراف الخجول
يعترف البعثيون بأن غزو الكويت كان "هفوة تاريخية"، وأنهم كانوا ضحية "مؤامرة دبرها الحلف الشرير، الإمبريالية والصهيونية وإيران الصفوية، لكي يمهد لغزو العراق"، وهذه الأطراف، "ورطت قيادة الثورة، وزينت لها دخول الكويت"، وكانت النتيجة "أن عجلة التاريخ عادت إلى الخلف، في حالة تقهقرٍ وتردٍّ وضياعٍ للأمة، إلى عصر التمزق والتناحر والتقاطع"!
الاعتراف جاء متأخراً أربعة وعشرين عاماً، وجاء خجولاً، لم يشخص طبيعة الحدث/ الزلزال، ولم يحط بأبعاده الكارثية، بل اكتفى بتوصيف ما حدث بأنه "هفوة"، ومعنى "الهفوة"، لمن لا يعرف العربية، "الزلة"، وأشهر استخدام لها هو "زلة اللسان"، وهي أيضاً "الخطأ العابر"، فيما يبدو، في حقيقة الأمر، أن غزو الكويت كان زلزالاً مهولاً، هز العالم العربي، كما اهتز له العالم كله، ومثّل أكبر انتكاسة للمشروع القومي العربي الذي كان البعثيون من أبرز المنظرين له.
والاعتراف لم يجب عن كل الأسئلة: ما هي حقيقة الدوافع التي حملت صدام حسين على اتخاذ تلك الخطوة، من دون أن يستشعر مضاعفاتها المحتملة؟ ولماذا لم يعترض رفاقه في القيادة، باستثناء طارق عزيز، على الفكرة، وهذا ما كشفه عزيز نفسه لاحقاً، ومن الذي أغرى صدام بحسم خياره نحو الغزو؟ هل هي إبريل غلاسبي، سفيرة الولايات المتحدة في بغداد، آنذاك، والتي قيل إنها أعطت جواباً مبهماً في أثناء مقابلتها له قبل الغزو، فهم منه أن أميركا لن تتدخل في أي صراع عسكري، قد ينشب بين العراق والكويت.
أم هو عزت الدوري، نائب الرئيس آنذاك، الذي فاوض ولي عهد الكويت في حينه، الشيخ سعد العبد الله الصباح، في جدة، بخصوص إسقاط الدين الكويتي على العراق، وعاد غاضباً، ونقل لصدام الموقف الكويتي الذي اعتبره الأخير إهانة له ولبلده. أم هو الذائع الصيت، بسمارك، رئيس وزراء مملكة بروسيا، والذي مهدت حروبه مع فرنسا إلى توحيد ألمانيا عام 1871، وكان صدام معجباً به على ما يبدو، فأراد تقليده!
هل صحيح أن صدام اتخذ قراره النهائي تحت ضغط نفسي وبدني حاد، كما جاء في شهادة عزيز، وربما بعد أن اكتشف أن حربه العبثية مع إيران تركت له مشكلاتٍ، لا سبيل إلى حلها إلا بحرب أخرى: جيشاً من العاطلين عن العمل، وديوناً بالمليارات، وأسراً محطمة، ومؤسسات مخربة، وشعوراً طاغياً بالانسحاق لدى فئات واسعة من العراقيين، وخصوصا الشباب، وهي فئات قد يشكل سخطها بداية توتراتٍ اجتماعية خطيرة، ولم يكن أمامه سوى وضع قدمه في خطوة غير مسبوقة، ولتكن غزواً لبلدٍ مجاور، وقد تكون أوهامه صوّرت له أن احتلال الكويت، وتحويلها إلى "المحافظة التاسعة عشرة"، سيجعل منه قوة إقليمية مهيمنة، ومالكة أكبر ثروة بترولية في العالم، ولم يكن مدركاً لحسابات الجيوبوليتكس، ولا لاستراتيجيات الإمبراطوريات التي رهنت المنطقة لمصالحها، مائة عام قادم، تلك الاستراتيجيات التي لن تسمح لأحد بالتلاعب بمصادر الطاقة، ولو أدى ذلك إلى نشوب حروب جديدة.
وفي نهاية المطاف؛ أصبح العراق ملزماً بسحب قواته، وتجديد اعترافه بدولة الكويت، وترسيم الحدود معها، ودفع تعويضات عن غزوها، وبدت العملية كلها أشبه بمسرحية كوميدية فاشلة، لم تَلقَ جمهوراً، لكنها أورثت ممثليها ومنتجيها وجع الرأس وخيبة الأمل!
وفي حسابات المراجعة والتقييم، يبدو الغزو حدثاً كارثياً بامتياز، وقد ارتكب صنّاعه ما يرقى إلى أن يُعَد خطيئة كبرى، لا يكفي معها الاعتراف الخجول الذي يقال إنه اقترن باعتذارٍ خطي، حمله إلى أمير الكويت موفد حزبي، بعد أن سعت السعودية إلى إسدال الستار على هذا الفصل، المليء بالغموض والأسرار، من فصول السياسات العربية المعاصرة!
وعلى أية حال، ما أحدثه الغزو سوف يظل في الذاكرة التاريخية فترة أطول، فبعد الثاني من أغسطس/آب 1990، لم يعد المشروع القومي العربي كما كان، إذ أصابه الوهن والتراجع، ولم تعد هناك حركة عربية قومية فاعلة ومؤثرة، وذات رصيد جماهيري كما كان في السابق.
وبعد ذلك اليوم، لم تعد التحالفات العربية ذات مصداقية وفعل، إذ سقط مجلس التعاون العربي، وتعثر مجلس التعاون الخليجي، واختفى اتحاد المغرب العربي، وتراجع موقع جامعة الدول العربية ودورها، وانتكست رايات الوحدة والتضامن العربي ونصرة القضية الفلسطينية. وبعده؛ سقطت أية إمكانية لدور بناء يمكن أن يلعبه النظام العربي في حل النزاعات العربية، وقد استوطنه عجز عن حل أبسط المشكلات. وانفتحت أبواب جهنم أمام العالم العربي، وأصبح العرب موزعين بين عرب بائدة منقرضة، وعرب في طريق الإبادة والانقراض!
الاعتراف الخجول لا يكفي، والمطلوب هو التعلم من الخطأ، وبسمارك كان يردد: "السذج وحدهم هم الذين يتعلمون من أخطائهم، أما أنا فأتعلم من أخطاء غيري". ولكن، للأسف، إننا لا نتعلم من أخطائنا، ولا من أخطاءٍ لغيرنا.