غزوة حزب الله القلمون
على غير العادة في التكتم على الخطط العسكرية، أعلن حزب الله، منذ الأسبوع الأخير من إبريل/نيسان الماضي، عن حرب شاملة سيخوضها في مناطق القلمون السورية، وتؤدي، كما خاطب الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، جمهوره لتغيير الأوضاع بشكل جذري هناك. وكاد الخطيب يحتفل مسبقاً بانتصار افتراضي.
ثمة أكثر من هدف لهذا الإعلان المبكر عن الغزوة الجديدة. الهدف الأول محاولة البرهنة على أن المحور الإيراني (وحزب الله رأس حربة له)، ما زال يمتلك زمام المبادرة في المشرق العربي، على الرغم من نشوب عاصفة الحزم، ثم عملية إعادة الأمل ضد الانقلابيين الحوثيين، ذراع إيران في اليمن، ومحاولة تبديد الزخم السياسي الإقليمي الدولي الذي أطلقته عاصفة الحزم وما زالت، والمعاكس للأطماع الإيرانية. سبق أن خصص السيد نصر الله ثلاثة خطابات على الأقل، لتناول الوضع في اليمن، وكان من المفارقات الكبرى أنه بينما يتحدث مسؤولون إيرانيون عن صلتهم العميقة بالحوثيين (آخرهم قائد الحرس الثوري، اللواء محمد علي جعفري، الذي قال إن إيران هي التي صنعت الجماعة الحوثية)، فقد اعتبر نصر الله ذلك في خطاباته من باب الأكاذيب!. فلا صلة لإيران، بحسبه، لا وجود، ولا يد لها، في اليمن.
الهدف الثاني لإعلان حزب الله عن غزوة القلمون محاولة تعويض نظام الأسد عن خسائره في بصرى الحرير وإدلب وجسر الشغور. التعويض النفسي والإعلامي، أولا، ثم محاولة التعويض الفعلي على الأرض.
الهدف الثالث محاولة الاثبات أن انتصارات حزب الله والنظام هي التي تحسم الوضع، وليس مباحثات المبعوث الأممي، دي ميستورا، مع أطراف سورية، فالخيار العسكري الذي اختاره النظام، منذ الساعات الأولى للانتفاضة السورية، قبل أزيد من أربع سنوات، هذا الخيار الاستئصالي كان، وما زال، يحظى ببركة حزب الله وتأييده وتعاضده، وكذلك ولي حزب الله في طهران، غير أن تطورات أعاقت اندفاعة الحزب في هذا الاتجاه. وقد كان من شأن فيديو بثته لأسرى من الجيش اللبناني لدى جبهة النصرة أن غيّر في المزاج السياسي، فالجنود المتحدثون حملوا على الحزب، ونبهوا المؤسسة العسكرية التي ينتمون إليها من الانغماس في حرب داخل الأرض السورية. ولم تكن ردود أفعال ذوي الأسرى في بيروت أقل وضوحاً، إذ حملوا بدورهم على حزب الله جهارا نهارا، في سابق لا مثيل لاتجاهها ووضوحها بين أبناء الطائفة الشيعية في لبنان.
التطور الآخر كان مقتل قيادات عسكرية للحزب في القلمون، وذلك في هجوم استباقي شنه الثوار السوريون. في تلك الأثناء، كان وليد جنبلاط يدلي بشهادة تدين نظام الأسد (وتالياً حلفاءه) أمام المحكمة الدولية الخاصة بالنظر في اغتيال الشهيد رفيق الحريري. يجدر التذكير، هنا، أن حزب الله يخوض معركة وجود في القلمون، منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2013، وسبق له أن احتل قرية القصير في الخامس من يونيو/حزيران 2013. ووجود قوات المعارضة والثورة السورية على أرضها في القلمون يعود إلى قبل ذلك التاريخ بسنة على الأقل، خلافا للانطباع الذي يثيره هذا الحزب، بأن ثمة أمر طارئ وناشئ يريد "تصحيحه" على طريقته وهواه. واللافت أن نصر الله هو من يعلن عن غزوة القلمون، وليس نظام دمشق الذي يتشدق بالسيادة الوطنية.
وإذ أوحى خطاب الأربعاء لنصر الله بأن ثمة تراجعاً، أو إرجاءً، للغزوة العتيدة، فذلك لا يعني، بالضرورة، طي هذه الصفحة، وخصوصاً مع حالة الاستنفار العالي في صفوف الثوار السوريين الذين قد يُراد لهم الاسترخاء، أو توجيه أنظارهم وجهة أخرى، ثم تتمّ، بعدئذ، مباغتتهم، بل إنه يمكن، مع نشر هذا المقال، أن تكون الغزوة قد بدأت بصورة من الصور. لكن من الواضح أنه يمكن إلقاء خطاب كل يوم، وافتعال مناسبات لهذه الخطابات. لكن، من غير الممكن شن غزوة مريحة شبه مضمونة النتائج، أمام ثوار يعرفون شعاب أرضهم، ويقاتلون دفاعا عن شعبهم ووطنهم، ويمتلكون دافعية قوية وفياضة للقتال ضد غزوة خارجية، علاوة على التمرس بالقتال في أصعب الظروف، منذ زهاء ثلاث سنوات. وحسناً فعل الائتلاف الوطني السوري، حين أصدر الأربعاء بيانا ذكر فيه أن "سلوك حزب النظام الإيراني في لبنان يستدعي رداً وتدخلاَ عربياً دولياً"، ودعوته "الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني إلى ضبط الحدود، وأن يتحملا مسؤوليتهما حيال حزب الله". فهذا الحزب المسلح يجهر بغزوة يهيئ لها خارج حدود بلده، بمعزل عن إرادة الدولة اللبنانية والشعبين، اللبناني والسوري، فيبيح لنفسه استباحة الحدود من الجهة اللبنانية، وهي بعهدة الجيش اللبناني، ثم استباحة الأرض السورية، وشعبها وليٌّ عليها.
يحسن بالائتلاف السوري المعارض، وكذلك قوى الثورة في الداخل وسائر القوى الوطنية، أن ترفع مطلباً قديماً، يستجيب لتطلعات الشعب السوري ومزاجه السياسي في هذه المرحلة، وسبق أن عبّر عنه مجلس التعاون الخليجي بضرورة خروج كل القوات غير السورية من الأرض السورية، من أجل الحد من التعقيدات المفتعلة لـ "الأزمة السورية" (علماً أن هناك تعقيدات أخرى غير مفتعلة!). التمسك بهذا المطلب وتظهيره والتركيز عليه، يمنح فرصة لمنازلة سياسية مع نظام يتاجر إعلامياً ولفظياً بالسيادة الوطنية، ثم يستجلب على رؤوس الأشهاد ما ينتهك هذه السيادة.
للسيد حسن نصر الله أن يربط مصير حزبه بمصير حاكم دمشق، كما رشح عنه لدى استقباله حليفه الجنرال ميشال عون، في بحر الأسبوع الماضي، وكما يدل على ذلك مجمل سلوك هذا الحزب المسلح، غير أن هذا الربط لا يجيز له استباحة الأراضي السورية، والإمعان في إنكار وجود شعب سوري. والانتقال من هذا الإنكار للتنكيل بهذا الشعب، تحت رايات طائفية صريحة، وإثارة نزاع طائفي في صفوفه، وذلك لضمان بقاء هذا النظام جاثماً على صدور أبناء شعبه. ومن جهة ثانية، ضمان تسهيل فُرص حزب الله في التضخم، وتقويض ولاية الدولة اللبنانية على أرضها، وسلب قرار الحرب والسلم منها. وذلك كله تحت الراية الإيرانية الظافرة، ووليها المعصوم.