غزوة القصاص من الكرتون

15 يناير 2015

شمعة يحملها نيبالي بوذي تضامنا مع الضحايا (14 يناير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
في ردود الفعل العاطفية التلقائية، المسكوت عنها غالباً؛ لم يشعر كثيرون في العالم الإسلامي بهول الكارثة التي أوقعها مهاجمو مجلة "شارلي إيبدو"، عندما اقترفوا مجزرة باريس التي راح ضحيتها ثمانية صحافيين، ومحاسب، وحارس خاص، وشرطيان أحدهما مسلم، وجُرح آخرون. ثم تبع ذلك الحدث المروّع، حدثان: أحدهما في متجر مجوهرات داخل مركز تجاري في مونبيلييه، والثاني في محل مأكولات يهودية، في شرق باريس. كان ثمة احتجاز رهائن ومطاردات أزهقت أرواح عدد من الأبرياء!
منفذا الهجوم على المجلة، وهما الشقيقان شريف وسعيد كواشي، اللذان لاقا حتفهما على أيدي قوات الأمن الفرنسي؛ لا بد أن يكونا معزولين عن ثلاثة فضاءات من الواقع: المشهد الثقافي والسياسي الفرنسي، والفضاء العربي الإسلامي، حيث تتناسل الكوارث، ويتغالظ المروق على الدين بأيدي رافعي رايات الإسلام، وداخل معسكر "السلفية الجهادية" نفسه، والفضاء الثالث شرع الله وشروحات ألمع فقهائه، كابن تيمية الذي شدد على أن درء المفسدة بطريقة ينجم عنها ضرر أعظم منها، يعتبر درءاً حراماً!
على الأرجح، لم يكن المهاجمون في كل أحداث فرنسا الأخيرة يعلمون أن حرباً إعلامية تندلع في الآونة نفسها، ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا، وقد أشعلها عنصريون، يدعون إلى طرد المسلمين من فرنسا. وهؤلاء العنصريون ينطلقون من خلفية متطرفة، وينكرون على مسلمي فرنسا إسهاماتهم في حروب البلاد وحضارتها، خلال القرن العشرين، مثلما ينكرون حقوق أبناء مستعمرات فرنسا السابقة التي نُهبت خيراتها عقوداً طويلة. وفي الحقيقة، لم تقصر النخب من الجالية الإسلامية في فرنسا، في التصدي لهجمة العنصريين الذين ناهضهم اشتراكيون وعلمانيون فرنسيون كثر. لكن دعوات العنصرية ونعراتها سرعان ما تسري كالنار في الهشيم. ولو كان موجّهو المتطرفين، من صحيحي الإيمان، لعملوا على تهدئة المناخات الفرنسية، بدل أن يدفعوا أغراراً من صغار السن إلى اقتحام مقر مجلة يسارية نقدية تهكمية، وتنفيذ جريمة مروّعة، انتظرها العنصريون لتوظيفها في سياق سعيهم إلى مقاصدهم.
كان منحى المزاعم التي سبقت جريمة الأخوين كواشي، وروّجها العنصريون، أن الإسلام هو ثقافة ومنظومة تربوية حاضنة للإرهاب، قبل أن يكون ديانة، وأن المسلم، أي مسلم، هو مشروع إرهابي بالمحصلة. وقد استمدت هذه المزاعم زخمها من عمل روائي لا علاقة له بالواقع، أنتجته مخيلة قاص مثير للجدل، يُدعى ميشيل ويلبيك، يتقيأ مثلما يفعل توفيق عكاشة على شاشة التلفزة في مصر، ويشد انتباه وسائل الإعلام والبسطاء، جاء فيه أن فرنسا سوف تجد نفسها في عام 2022 مضطرة لانتخاب رئيس مسلم "معتدل"، سيكون بالنسبة للفرنسيين المسيحيين بمثابة أهون الشرور، واسمه، للمفارقة، محمد عباس. لكن عباس هذا، في الرواية، سيجعل جامعة السوربون الفرنسية العريقة، شبيهة بجامعة "الإيمان" لصاحبها الشيخ عبد المجيد الزنداني في اليمن، وأن هذا الرئيس سيمنع النساء من العمل خارج المنزل، حسب
 توصية حسن البنا مؤسس "الإخوان" في إحدى رسائله المبكرة، التي بشرت بمرحلة تغليف الدين حزبياً وتصغير العقول!
في الخط الدرامي للرواية، يتمزق الفرنسيون بين خيارين شيطانيين، ثم يرسو خيارهم على الرئيس عباس المعتدل، لأن بديله سيكون مارين لوبين المتطرف اليميني الفاشي، زعيم "الجبهة الوطنية"!
والطريف، أن الرواية وهي تجترح أفضلية للرئيس المسلم، على الرئيس اليميني المسيحي المتطرف، الذي يُفترض أنه سيعمل على تحجيب فرنسا؛ لم تكن أقل سوءاً من محمولات مجلة يسارية لها رأيها في الأديان قاطبةً، كلما تعلق الأمر بجموح ناشطيها إلى الحكم والسياسة. فـ"شارلي إيبدو" بدأت واستمرت برسوم ضد التطرف في جميع الديانات، وكان متطرفو المسلمين من ضمن المستهدفين من متطرفي الديانات الأخرى. لكنها، مع تصاعد عمليات التفجير هنا وهناك، ازدادت رسوماتها سفاهة، فشملت النبي محمدا عليه السلام. وكانت ردود أفعالها على شكاوى المسلمين في المحاكم تصعيدية. ففي عام 2007، قررت المحكمة التي تبت في قضية ثلاثة رسوم أن رسمين منهما ضد التطرف والإرهاب، وليس ضد الإسلام، أما الثالث، وهو الذي يصور النبي محمدا عليه السلام ممسكاً بقنبلة، فقد اعتبرته المحكمة مجرد طريقة للتعبير في سياق حملة المجلة ضد الأصولية. وكان على القضاء الفرنسي أن يراعي كون التطاول على أي نبي أدعى إلى إنزال العقوبة بالمتطاول على مدير شركة أو شرطي أو أي إنسان، أو على صدقية المحرقة!
على الرغم من ذلك، وجب على المعتدلين والمتطرفين على السواء، أن يتحاشوا درء المفسدة بطريقة ينجم عنها ضرر أكبر منها. وهذا ما فعله اليهود مع المجلة، وما فعلته الكنيسة الكاثوليكية.
كان مقترفو الجريمة منفصلين كذلك عن فضاء "السلفية الجهادية" نفسه الذي يُنتج الاحتراب وإزهاق الأرواح، حتى داخل فضائه الذي يتلطى بالتقوى وشرع الله. يكفينا أن نقرأ، ما تسرب قبل أيام، عن خيبة أمل السلفيين الجهاديين الأردنييين، الذين غدر بهم الشيخ أبو جليبيب، القائد الميداني في منطقة حوران السورية، فقتل بالتعذيب البطيء شيخهم، أحمد حربي العبيدي، الملقب أبو سيف الأردني. والتهمة هي الاشتباه بمبايعة القتيل أبا بكر البغدادي. فقد أهدر "أبو جليبيب" (لاحظوا الأسماء كيف تتردى. فهذا هو تصغير جلباب) دم "العبيدي" وتلذذ بتعذيبه، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. ومن ذا الذي يقنع الفرنسيين بأن الجنون يطالنا قبل أن يطالهم، وأن مصير المسلم الجهادي السلفي كان وسيكون أسوأ من مصير كانو وستيفان وأنورييه وسائر الرسامين. فعلى الأقل، لم يسبق موت هؤلاء تعذيب.
الوجهة الصحيحة للفرنسيين وللعرب هي وحدة الموقف ضد الدواعش من كل دين، أي ضد أبو جليبيب المسلم وأبو جليبيب اليهودي المتطرف والمستوطن وأبو جليبيب المسيحي المنحاز لأبي جليبيب الثاني. عندئذٍ سيطمئن الفرنسيون إلى أن رئيسهم في عام 2022 سيكون كاثوليكياً!
(كاتب فلسطيني)