غزة ومصر وحماس .. ديكتاتورية الجغرافيا

07 فبراير 2015

غزيون في معبر رفح ينتظرون العبور إلى مصر (ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

ما إن يطرأ تحسن طفيف على العلاقات، المتوترة عادةً، بين غزة ومصر، منذ أحداث يوليو/تموز 2013، وإطاحة الرئيس المعزول محمد مرسي، حتى يأتي حدث ميداني يعيدها إلى سيرتها الأولى، من الاتهامات ونفيها، وجاءت أحداث نهاية شهر يناير/كانون ثاني الماضي، والعملية الدامية التي استهدفت في صحراء سيناء، على الحدود الجنوبية لقطاع غزة، وحدات من الجيش المصري، لتفاقم من التوتر، وتوصله إلى مرحلة غير مسبوقة من التصعيد السياسي والميداني. وهي عملية لم تكن حدثاً مصرياً داخلياً بحتاً، فقد سمعت أصداؤه العملياتية والتفجيرية على مشارف رفح الفلسطينية، واعتلى الفلسطينيون أسطح منازلهم، ليروا بأم العين أحداث الاشتباكات الدائرة بين الجيش المصري والمسلحين، فيما كانت ترددات العملية سياسياً أكثر من ذلك بكثير.
علم الفلسطينيون في غزة عقب هذه العملية غير المسبوقة في خطورتها وضحاياها، أنهم لن يكونوا في منأى عن تبعاتها، على الرغم من أنهم، منذ اللحظة الأولى، استنكروها ونددوا بها، وعبروا عن تضامنهم مع مصر، شعباً وجيشاً، لكن التطورات اللاحقة لها أبلغتهم، بلسان الحال لا بلسان المقال، أنهم سيكونون، بغير إرادتهم، جزءًا من النتائج المترتبة عليها، وهو ما أكدته الأحداث اللاحقة للعملية: ميدانياً وسياسياً وإعلامياً وقضائياً.

الاتهام المسبق

فور حدوث العملية في سيناء، شعر الفلسطينيون في غزة، وأقصد تحديداً حركة المقاومة الإسلامية حماس، أنها مطالبة بإثبات براءتها مسبقاً، على اعتبار أنها متهمة أصلاً من دوائر صنع القرار المصري، لاسيما الإعلامية، بعكس القاعدة القانونية القائلة إن "المتهم بريء ما لم تثبت إدانته"، وهو ما قامت به الحركة من إصدار بيان إدانة للعملية، ونشر لقواتها على الحدود الجنوبية لقطاع غزة، لعدم إفساح المجال لأي مسلح للهروب من سيناء إلى القطاع المحاصر.
وفور مرور ساعات قليلة على العملية، وقبيل تشييع قتلى الجيش المصري، خرجت الآلة

الدعائية المصرية المعادية للفلسطينيين بسرد قائمة اتهامات تزعم تورط حماس، سواء بالدعم المادي اللوجستي أو التسهيلات الميدانية، من دون تقديم دليل قانوني واحد، مع العلم أن الحدود المصرية الفلسطينية لم تعد تسمح بتنقل المسلحين منها وإليها، بعد إقامة الجيش المصري المنطقة العازلة، وتعزيز إجراءاته الأمنية.
وبدا واضحاً أن الضحية الأكبر للعملية الدامية في سيناء، بعد قتلى الجيش المصري، غزة وأهلها وشعبها، في ضوء جملة إجراءات تم اتخاذها عقب العملية، وتنذر بقطيعة قد تمتد حقبتها أكثر من قبل، خصوصاً بعد إعلان القضاء المصري أن كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس، منظمة إرهابية، وهو ما سيلقي بظلاله السلبية على الواقع المتوتر أصلاً بين غزة والقاهرة.
ولعل النتيجة الأسرع ترجمة لهذا التوتر تكمن في استمرار إغلاق معبر رفح البري، بين غزة وسيناء، وهو المغلق بصورة دائمة، باستثناء مرات قليلة يتم فتحه يوماً أو يومين، لأصحاب الحالات الإنسانية، ما يعني تفاقم الوضع الكارثي أصلاً في القطاع، بمنع آلاف الفلسطينيين من مغادرته، لاسيما أصحاب الإقامات في الخارج ممن سيفقدون وظائفهم، والطلبة الذين انقطعوا عن دراساتهم الأكاديمية، فضلاً عن المرضى الذين يعانون الموت البطيء في غزة، لعدم القدرة على السفر للعلاج في المشافي المصرية والعربية والأوروبية!
الغريب أن المعلومات المتوفرة لكاتب السطور تؤكد أن حماس أبدت، في الآونة الأخيرة، استعداداً جاداً لدى جهاز المخابرات المصرية العامة بتوفير ما تحتاجه من تعاون أمني، وتبادل معلومات لضبط الوضع الميداني في سيناء، في ضوء قناعة حماس اليقينية أن عدم استقرار الواقع السياسي والعملياتي في حدود غزة الجنوبية سينعكس بالضرورة سلباً على نظيره في القطاع، فحماس تعلم أكثر من سواها أن تمدد الجماعات المسلحة التابعة للقاعدة، أو المقربة منها، سيكون على حسابها بالتأكيد.
ولمن لا يعلم، لا تربط حماس قصة حب حقيقية مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو ولاية سيناء وفروعها في غزة، على قلتها. ولذلك، قد لا تقل حماساً عن السلطات المصرية في ضبط الوضع الحدودي، وعدم تسهيل قيام بنية عسكرية تسليحية عملياتية لتلك الجماعات على حدودها، على اعتبار أن تلك المجموعات ترى أن قتال حماس قد لا يقل أهمية، إن لم يكن أكثر، عن قتال الجيش الإسرائيلي، في ضوء فتاواها التي تكفر حماس، وتعتبرها خارجة عن الإسلام "القاعدي".
ومع ذلك، وعلى الرغم من توفر هذه القناعات لدى قطاع واسع من دوائر صنع القرار المصري، أمنياً وسياسياً، لكن اتهام حماس يبدو أقصر الطرق لتصدير الأزمة إلى الخارج، وعدم البحث عن جذورها الداخلية المحلية، المتمثلة بالعنف والضغط الذي يواجهه السيناويون من الدولة المصرية وأجهزتها.

مواقف ومصالح
لم يتوقف السلوك المصري عن اتهام حماس فقط بالتورط في العملية، على الرغم من عدم توفر اتهام رسمي، لكن الأذرع الإعلامية المصرية "لا تنطق عن الهوى"، بل تصل إليها إشارات من جهات نافذة في القرار السياسي والأمني، ولو أنها غير راضية عن جملة الإشاعات المسيئة للعلاقات المصرية الفلسطينية، لأوقفتها بكبسة زر، لكنها لا تشعر أنها متضررة من ذلك.
وتم تتويج الاتهامات المصرية لحماس بهذه العملية وسابقاتها، بإعلان محكمة مصرية، بصورة مفاجئة، عن كتائب القسام بعد 24 ساعة فقط من عملية سيناء، أنها منظمة إرهابية محظورة، وهو قرار غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين الجانبين، ويفتح الطريق واسعاً لزيادة التوتر في العلاقة وصولاً إلى مآلاتٍ، لا يعلم بها أحد من الجانبين حتى كتابة هذه السطور.
وقد اعتبرت حماس، من جهتها، القرار سياسياً بامتياز، ولو جاء بلبوس قضائي، لكنه يفتقر للحد الأدنى من الإجراءات القانونية، لاسيما وأن محكمة القاهرة للأمور المستعجلة نفسها

أكدت، قبل أشهر، أنها ليست جهة اختصاص للنظر بقضية مشابهة ضد حماس، فكيف تغير الحال بين عشية وضحاها، وحكمت بـ"إرهابية" كتائب القسام، إلا إذا وصلت توجيهات سياسية عليا بتمرير القرار!
وفي ذروة الإدانات الفلسطينية الفصائلية للقرار القضائي المصري ضد كتائب القسام، لفت الأنظار موقفان: الأول صمت السلطة الفلسطينية إزاء القرار، رغبة منها بأمرين: زيادة الضغوط على حماس، لإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات الداخلية في القطاع، وإيصال رسالة مفادها أن الخناق يضيق على الحركة، وليس لها خلاص إلا بتقديم ما يطلبه الرئيس محمود عباس من استحقاقات، تراها حماس قاسية عليها، ما دفعها لاتهام السلطة بأنها تشارك فيما وصفته "شيطنة" الحركة لدى المصريين. ومن جهة ثانية، تريد السلطة، وعصبها الأساس حركة فتح، إبداء رضاها عن السلوك المصري ضد حماس، في ضوء التسابق الحاصل لنيل حظوة متقدمة في القاهرة بين عباس وغريمه محمد دحلان، حيث لا يخفي الرئيس عبد الفتاح السيسي تفضيل الأخير على الأول.
وجاء الموقف الثاني من إسرائيل التي لم تنتظر ساعات قليلة حتى رحبت بالقرار المصري، واعتبرته تتويجاً للتحالف الثنائي مع القاهرة في حربها ضد عدو واحد في غزة، وفي الوقت نفسه، يفسح المجال أمام الجيش الإسرائيلي لمواصلة خروقه اتفاق وقف إطلاق النار.
ومن الواضح أن السلوك المصري ضد حماس لن يتوقف عند القرار القضائي، فقد توالت الحملات الدعائية المصرية ضد الحركة، وحديث السيسي عن طول أمد الحرب الداخلية، وتشكيل القيادة الشرقية الجديدة في الجيش المصري لمتابعة ملف سيناء حصراً، يؤكد أننا أمام مواجهة عسكرية قاسية، لن تكون غزة في منأى عنها، حتى لو لم تسمَّ بالاسم، وهو ما سيسفر عن استحقاقات في أكثر من ملف عالق بين حماس والقاهرة.

المصالحة والتهدئة
قد يبدو من نافلة القول إن لدى المصريين، اليوم، وأتحدث عن صناع القرار، بشقيه السياسي والأمني، من الانشغالات والتحديات والتهديدات ما يجعلهم في غنى عن الدخول في أي ملفات طارئة، لاسيما ذات الطابع الفلسطيني البحت، ففضلاً عن عدم توفر جهد إضافي يبذلونه في هذه الملفات، فإن حالة التوتر في العلاقة مع حماس سيجعل التواصل معها أمراً عسيراً وصعباً.
وعلى الرغم من أن حركة المقاومة الإسلامية لم تنف ولم تؤكد، ما نقل على لسان بعض أوساطها القيادية أنها لم تعد ترى في القاهرة وسيطاً مقبولاً بعد الخطوات الأخيرة، فذلك يؤكد أن الخط التصاعدي للقطيعة بينهما يتزايد، وصولاً إلى مواجهة مسلحة مع الجيش المصري، تهرب منها حماس بصورة لا تخطئها العين. وهنا، يمكن القول بثقة كثيرة أن عدم حضور الوسيط المصري في ملفي المصالحة مع فتح، والتهدئة مع إسرائيل، يعني إمكانية حصول تدهور مضطرد فيهما معاً، على الرغم من رغبة أطرافها الثلاثة: حماس وفتح وإسرائيل، بالمضي فيها، وكل لحساباته الخاصة.
غياب مصر عن الوساطة في ملف المصالحة بين فتح وحماس، بسبب دخولها في حرب طاحنة في سيناء، وسوء العلاقة مع حماس، يعني حصول انتكاسة في المصالحة الهشة التي وقعها الجانبان أواسط العام الماضي، ولم تنجح بعد في مغادرة محطتها الأولى، ممثلة بحكومة التوافق التي تصب حماس عليها جام غضبها عليها، لاتهامها بالتقصير في إدارة غزة، وإدارة ظهرها لموظفيها، وبالتالي، قد يكون رفع يد مصر عن المصالحة إيذاناً بعودة الانقسام الفلسطيني، مرة أخرى، بأبشع صوره. كما أن انكفاء مصر على أوضاعها المتفجرة في سيناء، ودخولها الحتمي في تنسيق أمني وعسكري، لا تخفيه، مع إسرائيل، يعني غض الطرف المصري عن الانتهاكات الإسرائيلية المتزايدة ضد الفلسطينيين في غزة، وعدم الاستجابة لدعوات التدخل التي تطلقها حماس، بين حين وآخر، للقاهرة لكبح جماح تل أبيب، ما قد يرشح الأمور للتوتر أكثر بين غزة وإسرائيل، على الرغم من عدم رغبتهما بالدخول في مواجهة عسكرية جديدة، لكن بقاء الطرفين الأخيرين في حالة مشاغلة متواصلة، من دون وجود وسيط يردعهما، أو يمنعهما من وصول خط اللا-رجعة، قد تدفعهما، من دون رغبتهما، إلى مواجهة ما!
أخيراً...لا يبدو التوتر السائد في العلاقة بين حماس ومصر، هذه المرة، كسابقه من حالات مشابهة، سواء بسبب ضراوة العملية الأخيرة ضد الجيش في سيناء، وعودة الحراك الثوري الداخلي بقوة ملحوظة، أو متابعة القاهرة ضخ الدماء الجديدة في علاقة حماس مع حلفاء الأمس، إيران وحزب الله، وهو ما لا ترضاه بالتأكيد، أو التغيرات الأخيرة في السعودية، وما قيل عن تغير مرتقب في سياسة الرياض تجاه القاهرة، وذلك كله قد يدفع الأخيرة إلى تصعيد الموقف أكثر ضد حماس، رغبة بافتعال عدو خارجي، وتحشيد المصريين خلف النظام.
في المقابل، تبدو حماس في حالة تشهد ازدياد الخناق على عنقها، على الرغم من وجود ثغرات أولية، بسبب الانفتاح الإيراني عليها، لكن الجغرافيا اللصيقة بغزة تجعل مصر هي، وهي فقط، من تمسك بأنبوب الأوكسجين الذي قد يمنح الفلسطينيين في القطاع المحاصر الحياة في أدنى مستوياتها، أو الإبقاء عليهم ضمن قاعدة "غزة لا تحيا ولا تموت"، ما يفسح المجال لتوقعاتٍ كثيرة تخشى حماس الإفصاح عنها، أو حتى تصورها، لأنها تعيد إنتاج صورة محدثة للحلفاء والأعداء!

1CF9A682-2FCA-4B8A-A47C-169C2393C291
عدنان أبو عامر

كاتب وباحث فلسطيني، دكتوراة في التاريخ السياسي من جامعة دمشق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة في غزة، له العديد من المؤلفات والأبحاث والدراسات والمقالات.