غزة لم تعش يوماً وضعاً بهذا السوء منذ 2007

29 سبتمبر 2018
تحرك لموظفين مفصولين من "أونروا" بغزة(عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -
في كل زاوية من غزة المحاصرة، قصة معاناة أو أزمة، لم تترك أحداً إلا وطاولته، وزادت معها حدّة المأساة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، وفوق كل ذلك، انقسام فلسطيني لا تبدو له نهاية في ظل تراشق الاتهامات بين طرفيه، والرغبة الواضحة لدى كل منهما بالاستفراد بالشأن السياسي العام للفلسطينيين. على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، تنتشر عشرات القصص التي تحمل أصنافاً مختلفة من المعاناة والمأساة، يرويها أصحابها استجلاباً لحلول، أو تروى للآخرين عبر مجموعات شبابية ونشاطات فردية في محاولة لإيجاد حلول لها، لكن في الآونة الأخيرة لا تتم تلبية الكثير منها، لأن المعاناة باتت أشمل وأوسع وقدرات الفلسطينيين على المساعدة وصلت إلى الحد الأدنى.

منذ بدء حصار غزة عقب سيطرة حركة "حماس" على القطاع عام 2007، لم تكن الأوضاع بهذا السوء، داخلياً وخارجياً، لكنها اليوم في قمة المأساة، ويبدو أنّ التعاطي داخلياً مع سوء الأوضاع ووصوله إلى مرحلة الانهيار شبه التام يجري بالطريقة السابقة نفسها. فحين أقفلت إسرائيل على غزة، وساعدتها مصر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، كان يتم التعاطي مع الحصار إعلامياً وعلى شكل حملات دعائية في غالب الوقت، لكن هذا التعاطي، المستمر حتى الآن، لا ينفع اليوم، مع تضييق الخناق للحد الأقصى، ووجود مخططات سياسية واضحة لتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية.

وقامت شركات كبرى بتسريح موظفين فيها، وبات عشرات التجار في السجون نتيجة عدم قدرتهم على سداد المتطلبات المالية المتراكمة عليهم، وبات عشرات آلاف الخريجين في الشوارع بلا أعمال، وحتى الموظفون التابعون لحكومتي غزة ورام الله في وضع إنساني صعب، مع تلقيهم أقل من 50 في المائة من رواتبهم، والتهديدات تطاول هذه النسبة المتدنية التي لا تلبي احتياجاتهم.

وإن صدقت التسريبات المتتالية بشأن عقوبات إضافية ستفرضها السلطة الفلسطينية على قطاع غزة مع بداية الشهر المقبل، فإنّ القطاع سيدخل بشكل رسمي نفق "الموت السريري"، والذي لن تنفع معه المسكنات الحالية للأزمات، والتي تتم بطريقة ترحيلها لوقت آخر. والعقوبات التي فرضتها السلطة، والتي تسميها "إجراءات" لإجبار "حماس" على تسليم القطاع لها، فاقمت الأزمة الاقتصادية، وفق تقرير حديث للبنك الدولي، والذي لفت إلى شح كبير في السيولة لدى الفلسطينيين في قطاع غزة، وانهيار اقتصادي متصاعد، يمهدان لخطر تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان.

ولا تقل حدة أزمة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" عن بقية مصائب القطاع، وربما هي الحلقة قبل الأخيرة في سلسلة الانهيارات المتتالية التي طاولت كل نواحي الحياة في القطاع الساحلي المحاصر، مع إصرار إدارة المؤسسة الأممية على عدم التعاطي مع كل جهود الوساطة بينها وبين اتحاد الموظفين، ولجوء الاتحاد للإضرابات والخطوات الاحتجاجية لمنع مزيد من التقليصات في برامج المؤسسة وفي أعداد موظفيها.

أما "حماس"، المقصودة بغالبية الإجراءات التي تُتخذ ضد غزة، لتقويض حكمها ومن ثم سلاحها، فإنّها لا تملك الأدوات الكافية والعلاقات الواسعة ومساحة التحرك الإقليمية والدولية لإنجاز ما يمكن أن ينهي المعاناة المتفاقمة ويوقفها، ويعيد الحياة لمليوني فلسطيني في القطاع المحاصر. وتراهن الحركة على تغيرات مفاجئة في المشهد الإقليمي أو الفلسطيني الداخلي، وهي تلعب حالياً على عامل الوقت، وتنتظر تغييراً ما يمكن أن يخفف القيود المفروضة على القطاع، أو أن تتحرك من جديد مباحثات التهدئة المتعثرة مع إسرائيل برعاية مصرية، أو تتراجع السلطة عن شروطها للمصالحة وتبدأ السير باتجاهها. وحتى هذه القفزات، لا يبدو أنها قريبة، خصوصاً مع تأكيد مصادر في "حماس" أنّ المصالحة التي يجري طرح بنودها أخيراً تعني نهايتها. وتوسعت دائرة المطالب التي قدّمتها "فتح" لتطاول سلاح ذراع "حماس" العسكرية، "كتائب القسام"، وهذا أمر لن تقبل به الحركة بأي حال من الأحوال.

وفي حال نفذت "حماس" تلميحاتها وتهديداتها الأخيرة، بالرد على أي عقوبات جديدة ضد غزة من قبل السلطة، بخطوات أحادية أو "فصائلية" في غزة، فإن المشهد برمته سيصل إلى مرحلة التعقيد الأكبر، ولعل الفصائل الحليفة لـ"حماس" والرافضة لنهج السلطة الحالي، ليست في وارد تشجيعها على اتخاذ أي خطوات قد تصل لإعادة اللجنة الإدارية التي كانت تحكم غزة مسبقاً.
ومع كل هذا، تبدو الحركة في رهان أكبر على مسيرات العودة أكثر من أي وقت مضى، على الرغم من كلفة المواجهة غير المتكافئة بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال المدججين بالأسلحة المختلفة، واستمرار "نزيف" الدم يومياً على حدود غزة. وبدا واضحاً أن مستوى الحشد الجماهيري، وعدد الفعاليات، وتنظيمها وقوتها وتنوعها في الأسابيع الأخيرة مؤشر على رهان "حماس" هذا، إذ توسعت بشكل لافت فعاليات "الإرباك الليلي" والحراك البحري، ومواجهات الحدود.

لكن احتمالات عودة مباحثات التهدئة، على وقع تصاعد الفعل الجماهيري على الحدود، والتي كانت ترعاها مصر مع إسرائيل، تبدو ضعيفة، في ظل مخاوف من اتخاذ السلطة الفلسطينية إجراءات معاكسة، وهي بالأساس التي أوقفت هذه المباحثات وسببت انتكاستها بعد أن وصلت إلى مسار "الجدية".
أما الحرب الرابعة على غزة، فتبدو أقرب من أي وقت مضى، حتى أكثر المحللين الفلسطينيين تفاؤلاً باتوا يعتقدون أن القطاع مقبل على عدوان صعب وقاسٍ، في ظل تصاعد الحراك على الحدود، وتزايد الضغط على الفصائل الفلسطينية لوقف نزيف الدم هناك، ولوقف تدهور الأوضاع الإنسانية والمعيشية والاقتصادية. وبكل الأحوال، فإنّ خيار الحرب ليس مفضلاً لدى "حماس" ومعها بقية الفصائل، في ظل حالة اليقين لديها بأنّ الأطراف المؤثرة في الملف الفلسطيني، "ستقف متفرجة"، أو ستدعو إسرائيل لمزيد من العمل من أجل إنهاء "حماس" وملف غزة.

المساهمون