غزة.. في معنى الحياة من دون كهرباء!

31 يوليو 2015
وُلدت أزمة كهرباء غزة مع محطة الكهرباء نفسها(مواقع التواصل)
+ الخط -
ذات مرة، كتبت وسيلة إعلام عربية: "رغم الفقر.. سكان غزة يتهافتون على آيفون 5"!
لا أظنّ القصد كان بريئاً خلف خبر كهذا، يُحدّثُ العربَ عن وصول الآيفون إلى غزة، وتهافت أهلها على شرائه، قبل أن تكتحل به عيونهم! كان ثمة الكثير من مثل هذا الخبر، بقصد إضعاف التعاطف العربيّ، الضعيف أصلاً، مع غزة وأهلها! وترويج صورةٍ مزيّفة عن واقعها المُرّ الذي يشترك في صناعته الأعداء والأشقاء على حد سواء!


ثمة شيء صحيح في الخبر المغرض الذي تحدّث عن آيفون، فأهل غزة شغوفون بالتكنولوجيا حقاً! نسبة الأمية فيها تقتربُ من صفر، وأعداد خريجي الكليات العلمية، لا سيما الهندسة، لا تُحصى، وكانت سباقة في انتشار مراكز الكمبيوتر، ومقاهي الإنترنت قبل أن تسمع بهما بعضُ الدول العربيّة، بل وقبل أن تدخلها أجهزة استقبال القنوات الفضائيّة المنزلية! لكن أهل غزة اليوم، تماماً مثل الآيفون فيها، جهازٌ حديثٌ مميّز، من دون شبكة هاتف توفّر خدمة الإنترنت!

وُلدت أزمة كهرباء غزة، مع محطة الكهرباء نفسها، وهي المصدر الأهمّ من بين مصادر الطاقة بغزة، قيل: إن الناس قد نصحوا السلطة بعدم شرائها، وإنها من نوعٍ باهظ التكلفة، ضئيل الإنتاج، غير قابل للتطوير، تمّ الاستغناء عنه في معظم دول العالم، وبطبيعة الحال تنامى مجتمع غزة، تكاثرت البنايات وتضاعفت أعداد السكان، وبدأت المحطّة تفقدُ قدرتها على مواكبة التغيّرات.

وإذ ذاك وقعت الكارثة الكبرى، بتاريخ 28 يونيو/ حزيران 2006، قصفت الطائرات الصهيونية بقرارٍ سياسيّ، محطة كهرباء غزة، عقاباً جماعياً لكلّ فردٍ من سكانها، رداً على أسر الجنديّ الصهيونيّ جلعاد شاليط على يد المقاومة الفلسطينية! انتزعت المقاومة الفلسطينية الجنديّ من قلب دبابته المحصّنة، وبردائه العسكريّ، وبندقيته المتطوّرة، لكن الصهاينة عاقبوا كلّ طفلٍ في غزة على ذلك!

أذكر حينذاك أن الكهرباء كانت تنقطع معظم اليوم إلا ثلاث ساعات أو أربعاً! وكان الأمر جديداً كلياً على أهل غزة! غير أنّ روح المقاومة في دواخلهم هوّنت عليهم، وكذلك توقعاتهم بأنّ الأمر لا بدّ أن يُعالج بالحلّ، وأنه لا شكّ لن يطول!

طال الأمرُ وتفاقم، وصار انقطاع الكهرباء جزءاً من الحياة اليوميّة الغزيّة، يشتدّ أحياناً، ويزيدُ شدّة أخرى، ولا يخفّ مطلقاً! ولا يعلمُ إلا أهلُ غزة معنى انقطاع الكهرباء على أصوله، وما هذه المقالة إلا محاولةٌ لشرح شيءٍ منه!

فمن معنى الحياة من دون كهرباء، أن يفقد الناس الماء، عنصر الحياة الأول، فكثيراً ما يتزامن وصل الماء مع انقطاع الكهرباء، فتذهب نوبة الماء كلّها دون فائدة، ويبقى الناسُ من دون ماءٍ أياماً، يعانون في شربهم، وفي وضوئهم وغُسلهم، وغسيل ثيابهم وحتى، أعزّكم الله، قضاء حاجتهم!

ومن معنى الحياة من دون كهرباء، أن يُعاني الناس في طعامهم، فكثيرٌ من أهل القطاع يعتاشون على الخبز المنزليّ، اختياراً لأنهم تعوّدوا عليه، أو اضطراراً لأنهم لا يملكون رفاهية شراء الخبز الجاهز، ويعتمدون على دقيق وكالة الغوث والشؤون الاجتماعية، فيعجنونه ويخبزونه في البيوت على "طنجرة الكهرباء" التي لا يعرفها الناس خارج فلسطين.

وكثيراً ما عجنت سيدات غزّة المكافحات في وقت وصل الكهرباء، ملتزماتٍ بالجدول المشؤوم، فما إن "يخمر" العجين حتى تنقطع الكهرباءُ على غير موعد، فيخسرنَ الخبز والعجين، والجهد الكبير الذي بذلنه!

ومن صور المعاناة في الطعام أيضاً عدم القدرة على الطبخ، فلا يخلو بيتٌ في غزة من موقد يعمل بالكهرباء تحسباً لانقطاع الغاز (الذي كثيراً ما ينقطع عن غزة)، فتعجزُ السيدات عن طبخ طعام أطفالهنّ!

ومن معنى الحياة من دون كهرباء، أن تغرق غزة في عرق أهلها، في حرّ الساحل ورطوبته العالية، بلا أي وسيلة تبريد، وأن يشربوا الماء حاراً في حمأة الصيف! وأن تتجمّد عظامُ الأطفال في برد الشتاء، فلا تدفئة مركزيّة تعتمدُ على الغاز مثلاً، كما في معظم دول العالم، بل تكاد الكهرباء تكون مصدر التدفئة الوحيد في القطاع!

ومن معنى الحياة من دون كهرباء، أن تتعطّل الدراسة، وألا يجد الطلاب نوراً يذاكرون تحته، وأن تُصمّ آذانهم بأصوات المولّدات ضعيفة الأداء، شديدة الضوضاء! وإن أسعفت الشمعة طلاب التاريخ والفلسفة، فلن تُساعد بحالٍ طلاب التكنولوجيا والهندسة!

ومن معنى الحياة من دون كهرباء، أن تتعطّل الصناعة، وأن يُضطر الصانعون لفتح ورشاتهم الساعة الثانية صباحاً، ويزعجوا جيرانهم، لأجل إنجاز أعمالهم، والتي تتضاءل بسبب قلة الإنجاز!

ومن معناها، أن تُدمّر الزراعة، فتموت المزروعات التي تعتمد مضخّات سقايتها على الكهرباء، وتموت الدواجن بسبب الحرّ!

ومن معناها أيضاً، أن تتضرر التجارة، فتفسد الموادّ الغذائية في الثلاجات، وتخسر محلات، وتُقفل دكاكين، وتخرب بيوت!

ومن معنى الحياة من دون كهرباء، أن تفسد البيئة، فيتلوّث الهواء، بدخان آلاف المولّدات الصغيرة، رخيصة الثمن، والتي ازدحم بها القطاعُ بغير فائدة تُرجى، وأن تجري مياه الصرف الصحيّ في الشوارع بسبب تعطّل مضخاتها التي تعملُ بالكهرباء!

ومن معنى الحياة من دون كهرباء، أن تفقد الحياة الاجتماعيّة طعمها، أن يضيق الرجل بأهله، والمرأة بأولادها، وأن يخرج الشباب فارّين بجلودهم من حرّ البيوت وظلامها وصمتها، وتنقطع الأرحامُ، وتتباعدُ الأرواح!

بل ومن معناها أن تضيع الحياة الحقيقة ذاتها، أن تموت النفس، ويهمد الجسد، وتصعد الروح إلى بارئها، إن تحريقاً بسبب شمعة، أو اختناقاً بدخان مولّد، أو إصابةً في انفجاره، أو حتى صعقاً بالكهرباء اللعينة نفسها حين تأتي في الوقت الخطأ!

ولك أن تتخيّل مشاعر الغزيّ الذي يدفن أطفاله المحترقين بشمعة، إذ يستذكرُ في نفسه، أن كهرباء غزة كلّها، لن تتجاوز حِمل شارعٍ في عاصمة عربية، أو مصنعٍ من مصانعها، أو فندقٍ من فنادق الخمس نجوم، المتناثرة في مدن الأمة التي تصدّر الطاقة للعالم أجمع!

هذه بعض معاني الحياة في غزة، من دون كهرباء، بقلم غزّيٍّ لن ينسى منها معنى واحداً، وإن مضى عليه عامٌ خارجها، أو ألفُ عام!

وكما قيل:
لا يعرفُ الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها!

(فلسطين)
المساهمون