غزة في اليوم التالي

30 يوليو 2014

متضامنون مع فلسطين في كاركاس (سبتمبر/2001/أ.ف.ب)

+ الخط -


"سوف تنتهي الحرب على غزة يوماً ما. لكن، ماذا سيحصل في اليوم التالي؟" الصحفي الإسرائيلي، آفي يسخاروف، أطلق هذا السؤال على موقع (تايمز أوف إسرائيل)، رد عليه أليكس فيشمان في (يديعوت أحرونوت) بالقول "هناك شك في أن تبقى حماس على صورتها الحالية، إذا ما وجهت لها إسرائيل ضربة عسكرية قاصمة. لكن، من يضمن أن أجيالاً جديدة من الجهاديين ستظهر في اليوم التالي، هل يمكن لإسرائيل أن تفكر، آنذاك، بالعودة إلى غزة، مع كل ما يستتبعه ذلك؟"

صانع القرار الإسرائيلي كان مطوقاً بهذه الأسئلة، ولذلك، تلقف المبادرة المصرية باعتبارها "طوق نجاة" يحفظ هيبة إسرائيل، ويحقق لها شروطها، ويحجم دور حماس، ويضعف من قدراتها، وقيل إن إسرائيل استشيرت فيها قبل إعلانها. حماس ردت بالرفض، لأن المبادرة لم تلب الحد الأدنى من مطاليبها، قال خالد مشعل "لن ننتظر أحداً (لكي نقرر)"، حاول محمود عباس، كعادته، أن يمسك العصا من الوسط، لكنه اضطر، في النهاية، على ما يبدو، إلى تبني مطاليب الفصائل الفلسطينية. قطر وتركيا حاولتا تقريب وجهات النظر، ووقفتا مع حماس، غضب المصريون وهم صناع المبادرة، وأعلنوا أنهم لن يقبلوا بأي تعديل على مبادرتهم!

مواقع إسرائيلية تحدثت عن هدف إسرائيل الأبعد من تقزيم حماس، وسلبها قدراتها العسكرية، ونفوذها السياسي، بحيث يمكن، في آخر المطاف، تحويل غزة إلى منطقة معزولة السلاح، وإنشاء "تحالف إقليمي"، يضم إسرائيل ومصر ودولاً خليجية. وكشف شاؤل موفاز وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق، في مقالةٍ لافتةٍ، عن مخطط كهذا يجري العمل عليه منذ زمن.

لم تأبه غزة لذلك كله، بل واصلت اجتراح ملحمة الصمود التي عاشتها فصولاً، منذ عام 2008 وربما قبل ذلك، واستحقت، بجدارة، أن تحوّل مساحتها الصغيرة التي لم تتجاوز  360 كيلومتراً مربعاً، وبعدد سكانٍ لا يصل إلى مليوني فرد، إلى مساحةٍ مفتوحةٍ باتساع العالم كله. هكذا تتناسل التراجيديا الفلسطينية فصولاً، إنه الزلزال الذي يخيف إسرائيل التي تذكر جنرالاتها مقولة موشي دايان قائد حرب 1967 "لا أنا، ولا أي جنرال آخر قادر على هزيمة الفلسطينيين، الذي يمكن أن يهزمهم هو الجنرال يأس!". كل مفردات الآلة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة لم تستطع أن تهزم بضعة آلاف من الفلسطينيين، لسبب بسيط، هو أنهم يمتلكون إرادة قوية لا تعرف اليأس.

وهو الزلزال الذي يخيف الحاكم العربي الذي افتقد في مواجهة حرب غزة حتى القدرة على الكلام، ولاذ بالصمت، متذرعاً بانشغالاته المحلية، وممارساً لعبة "النأي بالنفس"، مكتفيا بإرسال شاحنة تنقل خبزاً وحليباً، وبعض الدواء المنتهي الصلاحية، لأطفال غزة، ومعبراً عن عجزه عن فعل أكثر من ذلك، والأسوأ أن يطلب من إسرائيل أن تواصل حربها على غزة إلى أن يتم تفكيك صواريخها، وإلى أن تدمر المعابر كلها، وقد يكون قد طلب، أيضاً، تفكيك الترسانة البشرية التي تضمها، كي ينعم بقسط من الراحة والاطمئنان، فهو مذ قدر له أن يكون حاكماً، وهو يفكر بالمجد الذي سوف يحيط به، فيما إذا انتهت غزة!

لكن، إذا ما انتهت غزة، هل يستطيع أن يحتفظ بعرشه المطرز بالنجوم السداسية، من دون حساب؟

لماذا لم يشعر بالعار، إذن، وهو يسمع أصوات الأحرار من زعماء العالم الذين رفضوا الهمجية الصهيونية، إيفو موراليس رئيس بوليفيا الذي طالب بتقديم إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية، ونيكولاس مادورو رئيس فنزويلا الذي اعتبر عدوان إسرائيل على غزة حرب إبادة جماعية، وكريستينا كريشنير رئيسة الأرجنتين التي قررت إسقاط الجنسية عن كل أرجنتيني – إسرائيلي يخدم في جيش إسرائيل، وكارل السادس عشر ملك السويد الذي نزل إلى الشارع مع زوجته ليدين جرائم إسرائيل، وكذلك زعماء كوبا والإكوادور ونيكاراغوا والمالديف وسواهم من الذين أشاروا بأصابعهم إلى الدم الفلسطيني الذي يسيل في غزة، وطالبوا بإدانة الجاني ومعاقبته؟

ظل الحاكم العربي مكابراً، وقد يكون فكر بالاستقالة من القضية الفلسطينية، وتركها وراء ظهره، لكنه، في حقيقة الأمر، لا يريد ذلك، لأنه يحتاجها وقت الضرورة، وللضرورات أحكامها، وتاريخنا حافل بالزعماء والحكام الذين اعتبروا قضيتهم المركزية فلسطين، لكنهم جعلوا منها الشماعة التي يعلقون عليها أخطاءهم وخطاياهم. صدام حسين اعتبر الكويت معبرا إلى فلسطين، فوجه ضربة قاصمة للمشروع القومي من دون أن يدري. وحافظ الأسد أبقى على الجولان بعهدة إسرائيل، ودخل لبنان ليجعلها معبراً إلى فلسطين، فخسر لبنان، وسيخسر وريثه بشار سورية أيضا. ومعمر القذافي صورت له أوهامه إمكانية توحيد فلسطين وإسرائيل في دولة واحدة أسماها "اسراطين"، علق خارطتها على مكتبه، ونام مطمئناً. والآخرون وجدوا في شماعة فلسطين المبرر لسلب حرية مواطنيهم، فلا حرية للمواطن قبل التحرير، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة التي سوف يخوضونها يوماً، ولن يجيء ذلك اليوم قطعا!

ليكف الحاكم العربي يده عن غزة، إذن، وليكرمنا بصمته، وليدع غزة تخوض معركتها وحدها، وهي لن تنتظر أحداً، كما لا تريد منةً من أحد، ذلك هو قدرها، وهي قادرة على التعامل معه.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"