يقول سان جوست، أحد عرابي الثورة الفرنسية: "على الجميع أن يشارك في الثورة، فكل الناس مذنبون حين يكون الوطن مهددًا". في زمن الحرب، تبدو المشاركة إلزامية، ويلعب الإنسان دوره، كجلاد، كضحية، ويواصل دوره في تحصيل نتيجة ما، تقود إلى حقيقة واقعية معينة، لكنها ليس كواقعية ماركس، "التي لا يمكن أن تكتشف إلا على يد ساحر أو جلاد"، إنما هي هذه المرة واقعية تسجيلية، تكتشفها وتلتقطها، آلة التصوير.
أعلن مهرجان لندن للسينما في دورته الستين، التي أقيمت الشهر الماضي، فوز الفيلم التسجيلي "تسعة أيام من نافذتي في حلب"، بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير، لمخرجه السوري عيسى توما، إضافة لمساعدي الإخراج توماس فروج، وفلور فان مولن. وهو الفيلم الأول للمخرج توما، وقد شارك به في مهرجان الإسماعيلية من قبل.
تم تصوير الفيلم في عام 2012، حين أفاق عيسى على يوم غير اعتيادي، بدأت فيه الأحداث في حلب، رصد من نافذته الحركة غير الطبيعية، وقرر أن يقوم بالتصوير وهو يفكر في أنه قد لا يتمكن من إتمامه كما قال. تطل النافذة على مشهد لشارع تاريخي ضيق في منطقة الجديدة وسط حلب، المسافة بين البناية التي يقيم فيها، وبين البناية التي تقابله، لا تتعدى أمتارًا قليلة.
رغم ضيق المساحة التي تغطيها الكاميرا كل الوقت، إلا أن توما يوحي للعين بأنها ترى سورية كلها من خلال عدسة الكاميرا، إذ ينقسم الشارع الضيق لنصفين فجأة، ويتجمع بعض الشباب، مهندمين، حليقي اللحى، ويبدو أنهم ضلوا طريقهم إلى الجامعة كما يعلق توما على الصورة. يساعدون آخرين مسلحين في مراكمة أكياس كبيرة من الرمل، كمتراس يسدون به منتصف الشارع، كان هذا ما حصل في اليوم الأول، اليوم الذي انقسمت فيه البلاد!
في اليوم الثاني، يظهر مسلح من خلف الأكياس، حاملًا بيده جهاز ميكروفون، ينادي به على الطرف الآخر (الجيش)، فيما يكون طلاب الجامعة قد اختفوا، معظم الجيران رحلوا كذلك، والشارع الذي كان يعج بالحياة، انقسم إلى شخصين، يحملان الموت في أسلحتهما، ويناديان به في أجهزة الميكروفون كبضاعة لا يوجد سواها، بعد أن أقفلت المحال أبوابها كما يظهر في المشهد. وحدها أصوات متقطعة لإطلاق النار، ظلت تقطع الصمت المطبق بين حين وآخر.
يمر يومان آخران، المشاهد تتكرر، الناس يختفون بشكل شبه تام، تعلو أصوات إطلاق النار أكثر، تكاد مؤونة توما من الطعام تنفد، البناية تهتز هذه المرة، الاشتباكات أقرب وأكثر قسوة، عدسة الكاميرا تتنقل بين الأكياس في الشارع وكومة الإسمنت التي بجانبها، الألوان كلها داكنة، لم تلتقط الكاميرا أي لونٍ زاهٍ. يظهر بعض المدنيين أخيرًا، وهم يمدون يد العون للمسلحين.
لكن هذا المشهد يستمر فقط، إلى أن يجيء اليوم السابع، وعندها، يأتي ذات الأشخاص الذين وضعوا متاريس أكياس الرمل، ويزيلونها من مكانها.
يبدو أن المسلحين انسحبوا كما يقول توما معلقاً، وهكذا، أخذ الناس يساعدون الجيش، ويسهلون جولته في الحي بأكمله، يبدو أن الناس يساعدون الطرفين، أو أي طرف يدخل الشارع، طالما السلاح في يده. يأتي اليوم الثامن، يظهر بعض المدنيين في الشارع، تفتح بعض المحال أبوابها، ويمكن سماع أصوات الطيور من جديد.
فجأة، يظهر مسلحون ملثمون، غرباء هذه المرة، وأكثر احترافًا كما يبدو، ليسوا من شباب المنطقة، ولا من أهلها، يقول توما في الفيلم إنهم مسلحو حركة إسلامية ما، وبسرعة، يختفي الناس من جديد، تعود المتاريس إلى أماكنها هذه المرة، يشتد الوضع عنفًا، تتوقف الكاميرا وينتهي الفيلم.
في نهاية الفيلم، يوحي كلام توما بأنه لا فائدة من التصوير بعد الآن، لأن المشاهد سوف تتكرر، وأنه لا يريد أن يستمر بتصوير الحرب. تتوقف الكاميرا، وتمتد الحرب، في حلقة مفرغة سوف تدخل فيها سورية لأربع سنوات لاحقة، ولن تتوقف حتى اليوم، تسعة أيام، لا تريد أن تنتهي، الشارع الضيق لا يؤدي إلا إلى الهلاك، أو يكون طريقًا للهروب فقط.
اعتبرت لجنة المهرجان الفيلم تسجيلًا مدنيًا للأحداث، يتميز بأنه شهادة لم يدلِ بها أي طرف سياسي أو عسكري، وأن الفيلم شاهد على بداية الأحداث في سورية. فيما بدا زمن الفيلم اختزالًا للمأساة السورية، أما المخرج عيسى توما، فقد قال في مقابلة متلفزة إن "ما يحدث، أن كل شيء تتم إحالته للسياسة، في السوق، في البيت، على الحواجز، ترى كائنات سياسية". وسواء كان الناس منخرطين تمامًا في فكرة توما هذه، أو يحاولون التنحي عنها، فإنه لا يتم تقييمهم إلا سياسيًا بالفعل، وطائفيًا في أحيان أخرى، وفي معظم الأحيان، تتوقف حياتهم على هذه التقييمات دون أي اعتبار لأمنهم كبشر ومواطنين.
يذكرنا هذا الفيلم بما قاله ألبير كامو معلقًا على أحداث الثورة الفرنسية في كتابه "الإنسان المتمرد": "بطريقة أو بأخرى، تتحد الجريمة مع الفضيلة في حال اضطررنا لتعميم الجريمة، لهذا أوجدت المقصلة، كدعامة للدستور". كأن كامو رأى أن من يريد منح الحياة أو منع ثورة، يتوجب عليه سلب حيوات كثيرة أولاً. لا بد من حرب وقتل إذن لفرض قيمة ما.
إن مشهد الشارع الضيق طوال الفيلم، يصيب المشاهد بضيق تنفس. شارع إما يكون فارغًا، أو يجوبه مسلحون أو جنود، لا وجود لإنسان المدينة العادي، سوى هذا المخرج المختبئ في شقته، والذي يرقب العالم من النافذة فقط، متفرجًا على شبح الموت وهو يخترق الأجساد والبنايات المحيطة بين حين وآخر.
طوال الفيلم، لم يظهر الأفق، أما السماء، فقد ظهرت في مشهد مدته عشر ثوانٍ فقط، كانت صورتها غير واضحة، ولم يحلق في أفقها شيء، سوى طائرة مروحية، غطت الشمس.