عودة سلّومة الأقرع!

19 فبراير 2020
+ الخط -
كان لا بد أن أعود من جديد، فهذه البلاد لن يُصلحها غيري. أنا أدرى بِعِلِّتها وبدوائها، أنا لها وهي لي، فما حكمها الذين حكموها إلا بفضلي وبفضل أسلافي، كنا دائما نوطِّد لهم دعائم الأمور ونضرب رقاب أعدائهم ونقبع نحن خلف الكواليس لنرى أنصاف الرجال وهم يحكمونها بفضلنا، وها قد آن الأوان لأن يختفي كل ذلك الآن، فلا يركب المهرة الجامحة إلا فارسها الماهر، ولا يجلس على الكرسي إلا من يستطيع حقا وصدقا أن يملأ كل شبر فيه.

ههههاااااي، أشعر أن الله عز وجل راضٍ عني كل الرضا، فمن كان يصدق أن عنايته يمكن أن تسوق إليّ نفس الحلم مرتين، كنت أظن أنني أضعته إلى الأبد قبل عام ونيف عندما رفعوا في وجهي الأحذية، كل ذلك لأنني فتحت قلبي وتكلمت بصراحة، لم أصدق يومها أن هذا هو نفس الشعب الذي كان يحلم بي ويرى أنني فرصة خلاصه من ذلك الشاب الأرعن الذي كنت مضطرا لتحمل نزقه، وفاءً لجميل والده وإتقاءً لغدره الذي طال كل رفاق عمره.

الآن عندما أتذكر تلك الأيام التي كان كرسي العرش على مبعدة أيام مني، تندفع الدماء في عروقي لتجدد شبابي وتذكرني بأحلامي التي كنت أظنها قد ضاعت في أن أرى على عرش بلادي حاكماً يجيد حكمها وشكم شعبها، يا الله، من كان يصدق أنني سأتغلب على الجميع وعلى رأسهم أولئك الذين حاولوا إغتيالي ليوجهوا لي رسالة بأن أبتعد عن طريقهم لكي أفسح لهم المجال كاملا، ويومها فهمت الرسالة وابتعدت مقررا أن أراقب من بعيد، متابعاً كل مايدور من لغط هنا وهناك عما يطلقون عليه فضائحي وجرائمي وما إلى ذلك من هراء، لم أرتعش للحظة من كل ما نُشر ليس لأنني رجل حديدي كما يحبون تصويري في النكات التي أسعد عندما أسمعها تتحدث عن دمويتي لترسم لي صورة ذهنية أحببت دائما أن أرسخها بين الناس بصمتي الدائم، بل لأنني أعلم أن سلاحي الأقوى هو سلاح المعلومة الذي لم أضيع للحظة منذ أن توليت منصبي في إستثماره، هم يعلمون أنني أعلم كل شيئ عنهم، الصفقات والعمولات وأرقام الحسابات والسهرات والهمسات والهدايا والعطايا والمنح والليالي بألوانها والنهارات بخباياها، وأنني طالما ظللت محتفظا بكل ذلك فإن فرصتي في البقاء آمنا ستظل قائمة.


ههههااااي، نعم، كنت على الدوام واثقا أنني لن أُمَسّ، لكنني لم أكن أتوقع أبداً أنني سأعود بهذه السرعة بعد أن أخفقوا في تدبر أمورهم وخرجوا من مصيبة إلى أخرى، دون أن يستجيبوا لكل ما حذرت منه، كل الوجوه التي حاولوا تلميعها احترقت، وكل الأسماء التي نفخوا فيها الروح فارقت الحياة على الفور، وكل ذلك حدث دون أن أبذل أدنى مجهود، فكيف إذن تريدني ألا أشعر أن الله راض عني كل الرضا. أحياناً أرغب أن أستلقي على قفاي من الضحك عندما أقرأ تحليلات فارغة يكتبها البعض ويرددونها في وسائل الإعلام، يزعمون فيها أن كل ماجرى في البلاد طيلة الأشهر الماضية كان تخطيطاً محكماً مني لكي يصل الناس إلى مرحلة الحنين إلى الطاغية.

ههههاي، هكذا سأصبح إذن "الطاغية" أخيرا بعد أن عشت عمري كله راضياً بوضعي ضمن مصاف "أعوان الطاغية" كما يقولون، يا الله، ألا يقولون الصيت ولا الغنى، طيب سأعترف، أنا فعلا يا سادة الذي خططت لكل ماجرى في البلاد من فشل وتخبط وضياع، أنا الذي جعلت أولئك الذين ظلوا سنين طويلة في السجون يفقدون عقولهم مع رؤيتهم خيالات السلطة تتراقص أمام أعينهم فيسلمون أنفسهم كلية لها وينقلبون على من كانوا سببا في خروجهم من السجون فيخسرون حليفهم الأهم الذي كان يمكن أن يشكل غطاءً سياسيا حاميا لهم.

نعم، أنا الذي أقنعت حملة الشعارات الدينية أن يحرقوا أنفسهم في لمح البصر بممارسة الكذب والدجل السياسي وإظهار عدم الإحتراف وفقر الخيال وإنعدام الكفاءة في كل مايقومون به. أنا الذي أمرت السياسيين أن يتخبطوا، والثوار أن يختاروا المعارك الغلط، والجنرالات أن يحولوا أنفسهم من أبطال إلى مطلوبين للعدالة، والمدرعات أن ترتبك، والضباط أن يفقأوا الأعين، والوطن بأسره أن يتخبط ويفقد عقله. ليتني كنت حقا بهذه القوة، لن أغضب أبدا والله. أحيانا، أريد أن أخرج على الناس لكي أقول لهم في نوبة صدق جارفة: أيها الحمقى أنتم تمنحونني حقا أكثر مما أستحق، لكن الأيام علمتني ألا أرفض أبدا عطايا الأغبياء وقصار النظر، وإذا كان الله عز وجل قد رزقني بخصوم يُهدونني بغبائهم ورعونتهم وضيق أفقهم أكثر مما كنت أحلم به، فلماذا أستكثره على نفسي، خاصة وقد حكم عليّ الزمن بأن أكون لصيقا برجل رأيت كيف حكم هذه البلاد أكثر من ربع قرن دون أن تكون لديه موهبة سوى العناد، ودون أن يمتلك فضيلة سوى البرود، ودون أن يتحلى بأية ميزة غير معرفته أن رضا الأمريكان والإسرائيليين فوق رضا الله والوالدين.

هههااااي، أضحك من كل قلبي عندما أتذكر كيف صَدّق أولئك البلهاء أن هناك شيئا اسمه إرادة الشعب، وأن بلادا بها كل هذه الخيرات والكنوز يمكن أن تمنح نفسها لناسها فقط، كم كنت في بعض الليالي التي يثقلني فيها الضجر من فرط ما أسمع من هراء، أفكر أن أتصل على الهواء مباشرة ببرنامج من برامج النباح الليلي لكي أصرخ في الجميع قائلا: "أيها الحمقى لن يحكمكم إلا من ترضى عنه واشنطن وتل أبيب، هل تظنون أن سيدكم الذي كان يحكمكم ثلاثين عاما وكاد يورثكم لإبنه من بعده كان يمكن أن يظل في مقعده لولا رضا الأمريكان والإسرائيليين، هل تصدقون حقا أولئك النصابين الذين يقولون لكم أنهم فور وصولهم إلى سدة الحكم سيسدون خط الغاز الذي تضيئ به إسرائيل ليلها وتتدفأ به من برد العزلة، انتظروا أيها البلهاء لكي ترونهم قريبا وهم يلحسون كل شعاراتهم ليخبئوها في ذقونهم أو يضعوها في ثنايا كروشهم التي ستزداد تضخما عندما يذوقون ماكنا نذوقه من نعيم"، لكنني كنت كل مرة أتذكر أن غلطتي القاتلة كانت يوم أن قررت أن أخاصم صمتي وغموضي وأتحدث، صحيح أنني كنت مدفوعا إلى ذلك لأنني أعلم أن ظهورا إعلاميا كذلك الظهور اللعين كان يمكن أن يساعد صانع القرار في تلك البلاد البعيدة على دعمي أمام رأيه العام الذي لا يحكم بغير نيل رضاه، وكان يمكن أن يمر كل شيئ بسلام لولا أولئك الصبية التافهون الذين ركبهم الغرور وظنوا أنهم قد امتلكوا هذه البلاد لمجرد أنهم خلعوا فرعونها من على عرشها، أولئك الذين أدمنوا رفع الأحذية في وجوه من تحتاج هذه البلاد إلى حكمتهم، أولئك الذين ظنوا أن نُكتهم البذيئة في مواقعهم الإلكترونية وشعاراتهم التي يرسمونها على الحوائط وهتافاتهم التي تبح بها حناجرهم يمكنها أن توفر للناس الأمن والإستقرار والقوت الضروري، هاهم الآن يرون كيف يبادر الخائفون والمثقلون بأعباء الحياة والمرعوبون من غباء الملتحين إلى مناصرتي لمجرد إحساسهم أن ملامحي المتجهمة ستجعل حياتهم أكثر إستقرارا وأقل عناءً.


هههاااااي، لا أستطيع أن أتوقف عن الضحك عندما أرى كل تلك المحاولات المضنية التي يبذلها فرقاء السياسة الذين توحدوا على كراهيتي وإخراجي من الساحة، أعلم أنهم يمكن أن ينجحوا في ذلك إذا تغيرت التربيطات ونجحت الصفقات في أن تقدم تحت الترابيزات شيئا يرضي أصحاب المصالح الذين سبق لهم أن طلبوا إخراجي من المعادلة يوما ما ثم أعادوني إليها عند الحاجة، أعلم أنهم ربما يتصلون بي قريبا ليطلبوا مني موعدا يحدثوني فيه عن البلاد ومصلحتها التي يجب أن نغلبها على أنفسنا، قبل أن يثنوا على وطنيتي بحرارة قد تختلط حين اللزوم بتهديد مبطن، ولا أعلم بعد هل سأرضخ حينها ثانية أم سأقاوم حتى النهاية لكي أحقق أحلامي، لكن ما أعلمه أنني قد انتصرت، نعم، حتى لو أبعدوني فقد انتصرت، سيظل التاريخ يذكر أن خصومي من أصحاب الذقون بدلاً من أن يحاربوا ضدي في معركة شرسة، بدوا للجميع مذعورين وخائفين ولجأوا إلى إقصائي من المعركة، فمنحوني فرصة أن يكتب إسمي في التاريخ كضحية حرموها حقها في المنافسة والفوز، دون أن يعلموا أنني ما نلت تلك الفرصة إلا بفضل خطاياهم وغطرستهم وقصر نظرهم ورغبتهم المسعورة في الإستحواذ على هذه البلاد.

ههههااااي، لن أفقد اليوم على مايبدو رغبتي في الضحك، فأنا أشعر بالسعادة العارمة كلما أجد أن هناك حقا من يعتقد أن مشكلة هذا الوطن تكمن في شخصي، هم لا يعلمون أن المسألة أكبر من شخصي بكثير، وأنهم حتى لو نجحوا في إزاحتي عن المشهد فإن مهنتي الخالدة لا زالت وستظل على الدوام صاحبة العصمة والجلالة والسيادة في هذه البلاد التي لم يتربع فيها حاكم على عرشه إلا بفضل حماة أمنه أو بصاصيه أو مخبريه أو قلمه السري، سمهم ما شئت، المهم ألا تنسى أبدا أن بلادا كهذه لا يمكن أن تحكمها أبدا بدون أذرع باطشة وصدور لا تضعف أمام الهراء العاطفي وإرادة حديدية تدرك أن الناس لن يعرفوا مصلحتهم كما نعرفها وآذان لا تغادر سراً إلا ووعته في صناديق سوداء تنفتح بحساب ولا تترك همسة إلا وحفظتها في سجلات عصية على الفقد.

أوففف، الآن فقدت رغبتي في الضحك عندما تذكرت أن كل هذا اليقين في خلود نفوذي ونفوذ مهنتي، يمكن أن يتحطم فقط أمام إصرار أولئك الشباب الذين لا زلت أتشكك في كل التقارير التي تردني عن عدم وجود قوة خارجية تدعمهم أو تحركهم، أعلم أنني لن أصدق ذلك لأنني لا أريد أن أصدقه فأنا من جيل عاش حياته ينفذ الأوامر على أمل أن يأتي اليوم الذي يرتقي فيه لكي يصدر الأوامر لمن تحته، دون أن يفقد إدراكه أن ذلك الترقي لن ينفي أن هناك دائما فوقك من يجب أن تحرص على رضاهم وتنفيذ أوامرهم سواءا كانوا داخل الوطن أو خارجهم، هذه هي الحياة كما عشتها عمري كله، فكيف أتصالح هكذا وببساطة مع أناس لا يتلقون أوامرهم من أحد أيا كان، ولا يندفعون سوى مايعتقدون أنه مصلحة وطنهم، كيف تريد مني أن أئتمن أمثال هؤلاء على بلاد لم تنقرض أبدا لأن كل شيئ فيها كان دائما يسير وفقا لحسابات مسبقة معقدة.

نعم، هؤلاء الشباب هم الخطر الحقيقي على هذه البلاد العريقة، فلن يفسد شعبها الطيب شيئ مثل ذلك العناد وتلك الجرأة وذلك الإصرار على تكسير كل الخطوط الحمراء التي لا يمكن أن يستقيم حال البلاد بغيرها. سينقرض نفوذ مهنتي وممارسيها وسيلعنني كل اساتذتي في قبورهم، لو ترك أهل البأس والشكيمة الفرصة لهذا الجيل الأحمق أن يقنع أهل البلاد أنهم يمكن حقا أن يحيوا دون أن يحكمهم من يقرر لهم مصيرهم ويحدد لهم شكل أحلامهم ويضع لهم سقف خيالهم ويرسم لهم خرائط وعيهم ويعطيهم فقط مايحتاجون إليه لكي يبقوا على قيد الحياة، لأن الشعوب إذا شبعت تمردت، وإذا ارتاحت حلمت، وإذا حلمت امتلكت مصيرها ولن تكون حينها بحاجة إلى من هم مثلي أبدا.

هذه هي معركتي، سأحاربها بكل ثبات ويقين وإيمان، وأنا أعلم أنه حتى لو حلت نهايتي أنا شخصياً فلن تنتهي تلك المعركة بسهولة. والأيام بيننا.

.....

نشرت لأول مرة على صفحات (المعصرة) بتاريخ 18 إبريل 2012 تعليقاً على عودة نفوذ الأجهزة السيادية إلى المشهد المصري، وأظن أنها لا تزال صالحة للنشر.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.