عودة القذافي
بالإمكان فهم تعنت الديمقراطية ورفضها التنزّل برداً وسلاماً على الشعب الليبي، بعد ثورته المجيدة، فهذا قد يأتي في إطار عودة الدولة العميقة في دول الربيع العربي بشخوصها الديكتاتورية الأحياء. من فرّ منهم وترك ظله، ومن حُبس وتمت تبرئته، لأنّه كان يدير البراءة من زنزانته، ويؤشر لرجاله فيجيبوا صاغرين. ولكن، أن تعود الدولة العميقة بالأموات إلى درجة أن يلوّح الديكتاتور من قبره لشعبه، الواقف على حافة الحرب الأهلية، بأنّي هنا موجود، فهذه تحتاج إلى أن يُرجع الشعب البصر كرتين، حتى يتسنى له رؤية ما فعله به الحكم الاستبدادي اثنين وأربعين عاماً.
ما زال العقيد الليبي الراحل، معمر القذافي، يشغل الناس، وهو في قبره تتعالى النداءات بنبش ذلك القبر المجهول، وتحويله إلى جهة أخرى، وتتزايد ادعاءات بعض الليبيين أنّه قابلهم، وتحدث معهم. ولكن، من بين ذلك كله تتجسد فانتازيا البعث للقذافي في مارس/آذار 2012، عندما استدعت محكمة مغربية أحد الصحافيين للمثول أمامها، في قضية كان رفعها العقيد ضد الصحيفة بتهمة المساس العلني بكرامته وشخصيته. وكان الصحافي المغربي قد كتب مقالاً عام 2009 عن غياب الديمقراطية في دول المغرب العربي، وخصّ ليبيا بأنّ زعيمها حكم البلاد بالحديد والنار، وأنه بدّد ثروة الشعب الليبي، ولم يحقق من شعارات الثورة التي جاء بها شيئاً، ثم طلب من الليبيين أنّ عليهم أن ينتظروا 40 عاماً أخرى، ليتحقق وعده بتوزيع عائدات النفط عليهم. كان حُكم تلك القضية ابتدائياً واستئنافياً بمبلغ مليون درهم للقذافي. ولكن، تم تأجيل الدعوى بطلب من المحكمة، إلى حين التأكد من وفاته.
عاد القذافي من قبره، ولم يكن قد غادر حدود "زنقته" التي تم التمثيل به فيها. وفي ثياب أتباعه ومواليه تبختر مستغلاً الفوضى غير الخلّاقة التي كان يكبحها بسوطٍ من عذاب، وما زالت تدكّ ما تبقى من مؤسسات الجمهورية. ووسط تساؤل محللين كثيرين عن وضع الدولة الليبية الآن، ينتصب السؤال الأهمّ: هل ليبيا في طريقها إلى أن تُصنّف دولة فاشلة، أم أنّها صارت كذلك فعلاً باعتبار التسليم بحالة الفشل هذه، وإذا كانت كذلك فأين هي، وأين حدودها الفعلية؟
قُبِر القذافي، وعاد ليقول إنّ حلمه القومي سيجتاح ليس الوطن العربي وحده، أو أفريقيا بل أوروبا كلها. فبالتزامن مع عودة فيديو قديم جاء، في محتواه، أنّ غالبية أوروبا ستصير من المسلمين خلال عقود، تم رفع فيديو آخر للقذافي يدعو أوروبا إلى الإسلام. وإذا علمنا أنّ الفيديو، موضوع التصريحات، لمسؤول حكومي ألماني قد تم بثه في عام 2009، ثم كانت دعوة القذافي تلك في زيارته إلى إيطاليا عام 2010، يتضح أنّ المناسبتين تم تركيبهما معاً، من دون الإشارة إلى تاريخ محدد، وذلك لبث نوع جديد من دراما التنبوءات. المسألة ليست فيما تثبته تلك الإحصائيات، أو تنفيه، فمن المتوقع أن يكون الأمر مقبولاً، كتطور طبيعي للتعايش بين الأديان والمجتمعات، لكن المشكلة في زج رجال القذافي بسيرته، في أغلب الأحداث العالمية، ومحافظتهم على موهبة الإخراج الفذّة، ليثبتوا بالواقعة المشهودة أنّ زعيمهم تنبأ وصدقت نبوءته.
في تلك الزيارة، وصف المسؤولون الإيطاليون ما فعله القذافي بأنه ليس سوى استعراض ديني. وكيف يستغنى عن الاستعراض، وقد أمر، في تلك الزيارة، رجاله بأن تحصل كل من الفتيات اللائي حضرن الندوة على مبلغ يتراوح ما بين 70 إلى 100 يورو ومصحف هدية. كما أنّه، في الرحلة نفسها، حرص على أن يكون برفقته 30 حصاناً، للمشاركة في الاحتفال بمرور عامين على معاهدة الصداقة الليبية الإيطالية. ولم ينس، بالطبع، خيمته التي نصبها في ساحة الأكاديمية الليبية في روما، للإقامة فيها، ما أدى إلى إثارة الاستياء، وقد كان يصرُّ على نصبها بفرض نوع وشكل استضافة جبرية أينما حلّ.
ومن أوجه الاستعراض أنّه كان يُصرّ، أيضاً، في اللقاءات الدولية بأن يُقدَّم بملك ملوك أفريقيا، وقد فعلها الرئيس المخلوع، حسني مبارك، بأن قدّمه في فعاليات القمة الخامسة عشرة لدول عدم الانحياز التي كانت منعقدة في شرم الشيخ من 11 إلى 16 يوليو/تموز من عام 2009، وما كان يدري الاثنان، المنادي والمنادَى، بمصيرهما.
باستماتة رجال القذافي في نثر سحر القيادة، حتى لا تضيع صورته من أذهان الليبيين، وببعثه في هيئة رجاله الحاليين، يظلّ القذافي يفتي، ويمتد أنفه إلى أبعد من حدود قبره. وفي استطاعة الملاحِظ لما يدور في ليبيا، اليوم، أن يدرك أنّ هناك مجهوداً يتم بذله لترسيخ العقيدة القذافية، وركل الثورة الليبية. والجهة التي تعمل على ذلك ليس سوى أتباعه، منهم من حملهم الثأر القديم من القذافي نفسه، ومنهم من أخضعهم، ومنهم من ولّاهم.
تحتاج ليبيا، اليوم، إلى أكثر من التفاتة، ليس لرفع الستار عن غموض يكتنف مسيرة الديمقراطية وحدها، وإنّما، أيضاً، لوضع اعتبار للثورة التي أزاحت الطاغية وسط أهازيج الثائرين، وما زال هناك ثمّة شيء باقٍ يحيل إلى ما بين التوق إلى الحرية وتحقيقها.