عن هيكل في محنة مرضه

14 فبراير 2016

هيكل.. عاش ظروفا سياسية صعبة قبل 40 عاماً

+ الخط -
في هذه اللحظات، يمر الكاتب الصحفي المرموق، محمد حسنين هيكل، الذي جاوز الثانية والتسعين، بأوقات صعبة، ويقيني أن ذاكرته لن تخبو حتى اللحظة الأخيرة. فلا ينكر حتى من خاصموه، أو اختلفوا معه، أن الرجل أسهم كثيراً، في مراكمة وعي كل الأحياء منا، بوقائع السياسة، وأن كراهية آخرين له، وتعسفهم في تقييمه وتوصيفه، كان معطوفاً على كراهيتهم وتوصيفهم للزعيم العربي جمال عبد الناصر. ولا ينكرّن منصف أن محمد حسنين هيكل، عندما عاش أوقاتاً سياسية صعبة، قبل نحو أربعين سنة، وانفلت عليه كُتّاب ومنافقو المرحلة، التي خاصمه فيها الرئيس الأسبق، أنور السادات؛ احتفظ برباطة جأشه، ولم يلاحق التخرصات، ولم يخض سجالاً مع أحد، وتصرف ككبير متسامٍ على ثرثرات الشتَّامين. فبعد نحو عشر سنوات من مطولات هجائه، في الصحافة المصرية، سُئل عن رأيه فيما يقولون في ذَمَّه، في أثناء محاضرة له في معرض الكتاب الدولي في القاهرة، فأجاب بطريقته: لقد لفتني، عندما اطلعت على المخطوطة الأصلية، لمقدمة ابن خلدون، في مدينة فاس المغربية، أن المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع البشري، كتب في خاصرة كل ورقةٍ من أوراق المخطوطة "الحمد لله، إن ما نُقل عني صحيحٌ" وفي هذا المقام، أرغب في استعارة الجملة، مع تعديل طفيف، لأقول: الحمد لله، إن ما نُقل عني غير صحيح.
يومها، دعا إلى التقليل من شأن الخلاف حول شخصه، لكي ينصرف الجميع الى رؤية الشأن العام ومشكلاته، واقترح تشكيل لجنة محايدة، للبحث في حقيقة الاتهامات التي وجهت إليه، لكي تُطوى هذه الصفحة، مرة وإلى الأبد.
قليلة هي المواقف والآراء التي اختلفنا فيها مع كتابات الأستاذ محمد حسنين هيكل. ففي الحلقة الأخيرة، من ثلاثية كتبه "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل" وعنوانها "سلام الأوهام.. أوسلو وما قبلها وما بعدها" تعرّض الكاتب لحركة فتح بهجاء مرير، طاول البدايات، فضلاً عن المآلات التي جعلت "فتح" مسهمة في "كسر المقدسات"، حسب تعبيره ورؤيته ورؤية سواه. ومع كل التقدير للكاتب الذي ظل في طليعة من أنصفوا قضايا التحرّر الوطني، وممن دافعوا بثبات عن تيار القومية العربية، ورمزه الزعيم جمال عبد الناصر، وممن انحازوا للحقيقة، ودافعوا عنها أمام محاولات الخداع وتشويه التاريخ، لا سيما محاولات تعميق الإحساس بلاجدوى الكفاح الوطني المسلح، وبلاجدوى التنمية المستندة إلى طاقات المجتمع؛ وجدت نفسي مضطراً للرد عليه، عاجلاً، بكتابٍ ينشر في القاهرة، بعنوان "إنصافاً للبدايات".
الطريف، فيما كتبت، أن الرجل كان معنياً بالبرهنة على أن "فتح" كانت نبتاً مشوّها منذ انطلاقتها، وهذا الذي أثارني، كواحد من مقاتليها عاش مع قيادتها في الميادين. ولا أدري، ما الذي جعل الأستاذ هيكل يفارق دقته في تعيين المواعيد والتواريخ، عندما يكتب، ويسجل في "سلام الأوهام" معلومات خاطئة، أتاحت لي تصحيحها، بتواريخ ووقائع، نشرتها "الأهرام" نفسها، ووكالة أنباء الشرق الأوسط، المصرية الرسمية. فقد كتب، مثلاً، إن الفترة التي كان الرئيس السادات فيها يعتزم شن حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973؛ كانت تشهد قطيعة بين السادات ومنظمة التحرير الفلسطينية، ما جعل الأول يلجأ الى قناة جهاز المخابرات المصرية، في بيروت، لكي يدعو الرئيس ياسر عرفات إلى القاهرة، ويطلب منه مشاركة رمزية في الحرب، من الجبهة المصرية، لكي يكون لمنظمة التحرير نصيبها في ترتيبات ما بعد الحرب، أي أن تكون حاضرة في الحرب، لكي تكون حاضرة، فيما يطرأ بعدها من ظروف. وجاء في الكتاب، أنه في يوم 22 سبتمبر/ أيلول نقل مندوب المخابرات الدعوة لياسر عرفات وصلاح خلف، للقاء السادات في الإسكندرية. وفي اللقاء يوم 25 سبتمبر/ أيلول، حسب رواية هيكل، سأل أبو عمار وأبو إياد الرئيس السادات، عمّا إذا كان اتخذ قرار الحرب، وكان رده أن المعركة حتمية، ووصف ما ينويه بــ "الشرارة" التي تنبه الغافلين إلى أن حالة اللاسلم واللاحرب لا يمكن أن تستمر.
وفي وصفه منطق السادات في اللقاء، تعمد الكاتب الإيحاء أن الرئيس المصري لم يشأ إفشاء
سر المعركة، وأنه لم يكن يثق في القيادة الفلسطينية. وهذه نقطة تدحضها الوقائع، على الجانب الفلسطيني. وعلى الرغم من أن الأستاذ هيكل التقى الرئيس عرفات وصلاح خلف بعد اجتماعهما بالرئيس السادات؛ إلا أنه كتب تواريخ خاطئة. ففي يوم 25 سبتمبر/ أيلول استقبل الرئيس السوري حافظ الأسد الرئيس ياسر عرفات، ومعه أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في أعقاب اجتماعات هذه اللجنة التي بدأت يوم 21. أما القائد صلاح خلف، ومعه فاروق القدومي، فقد اجتمعا بالرئيس السادات يوم 20 سبتمبر/أيلول حسب ما نشرته "الأهرام". معنى ذلك أن منظمة التحرير لم تكن يوم 22 من الشهر نفسه، في حاجة إلى اتصال عبر قناة المخابرات لكي تتلقى دعوة. وكان أبو إياد وأبو اللطف في جولة مغاربية، وحضرا مؤتمر قمة عدم الانحياز في الجزائر (6/9/1973). بل إن السادات وعرفات التقيا على هامش تلك القمة.
كان أبو عمار يعرف التوقيت التقريبي للحرب، وهذا توقيت قرّرته في اللحظة الأخيرة اعتبارات ميدانية. وفي يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1973 اجتمع ياسر عرفات مع القادة العسكريين في مقر قيادة متقدم تحت الأرض الصخرية، بمحاذاة قرية عيتا الفخار اللبنانية في قضاء راشيا. وقال للقادة العسكريين، إن المعركة وشيكة، والعمليات ستبدأ في لحظةٍ ما، ما بين 6 و16 من الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول). وتم الاتفاق على أن يسافر وفد عسكري إلى القاهرة، للاتفاق على تدابير التنسيق والمشاركة من الجبهة المصرية. وسافر الوفد فعلاً، في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول (العميد طارق، قائد القوة الجوية، ومنذر الدجاني وغازي عطا الله). وأعطيت التعليمات لنقل "قوات الكرامة" من لبنان إلى مصر، وقائدها منذر الدجاني، وتعليمات أخرى، لزيادة عدد قوات لواء عين جالوت الموجودة في مصر، بضم جنود سابقين إليه. وكان الجانب المصري يريد قوة خاصة، تعمل وراء الخطوط. وهذا هو الذي حدث، وفي المعركة، وقع الضابط، الشهيد فيما بعد، عبد المعطي السبعاوي، في الأسر وأخفى هويته، وخرج بعدئذٍ مع الأسرى المصريين!
تغاضى الأستاذ هيكل، في غمرة غضبه الحميد، من مآلات "فتح"، عن المآثر، فارتجل رؤيته التي مسّت المسيرة كلها منذ البدايات. اختلفنا معه في رؤيته تلك، وفي القليل غيرها، لكننا ظللنا نقدّر دواعيه ووجهته العامة ونقرأ له. وبالطبع، نتمنى أن يكون ما يكابده الآن عارضاً صحياً، يقف بعده شامخاً، إلى أن يأتيه الأجل المقرّر على الإنسان.