عن مَحكمةٍ واغتيالٍ وسينما: أوليفر ستون لبنانيّ؟

21 اغسطس 2020
أوليفر ستون: براعة السينمائيّ في كشف مستور (جي. سكيولّي/وايرإيماج/Getty)
+ الخط -

أتحتاج بيروت إلى أوليفر ستون لبناني؟

قرار المحكمة الدولية الخاصّة بجريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري (18 أغسطس/ آب 2020) يطرح تساؤلاً كهذا. الحاجة تخرج على الوقائع والتفاصيل القانونية البحتة. السينما غير معنيّة بهذا الجانب فقط. تحتاج إليه، لكنّها غير مُطالَبة بحصر نصّها السينمائي به، من دون غيره. القرار يُثير خيبة أمل لدى لبنانيين كثيرين، يُريدون عدالة يعتبرونها مُعطّلة؛ ويُثير ارتياحاً لدى آخرين، إذْ يجدون أنفسهم متحرّرين من اتّهام يقولون، منذ البداية، إنّهم أبرياء منه. المحكمة الدولية تقول شيئاً آخر، يرتبط مباشرة بوقائع وتفاصيل قانونية. هذا عملٌ تقوم به لتبيان حقائق ومعطيات مؤكَّدة. لكنْ، هناك من يسأل: أتنتهي الحكاية بقرار؟ وهناك من يقول بوجود فرقٍ شاسع بين محاكمة وعدالة.

سؤال الحاجة إلى أوليفر ستون لبناني منبثقٌ من عطبٍ يراه لبنانيون كثيرون في قرار المحكمة الدولية. أعوام مديدة غير مؤدّية إلى كشف المطلوب، بحسب هؤلاء. الرغبة في الانتقام تقودهم، لكنّ المحكمة الدولية تريد إثباتات. أهناك تلاعب سياسي دولي في قرارها؟ هذا منوطٌ بآخرين، يُفترض بهم البحث في ذلك وكشفه، ولعلّ عاملين في السينما يُدركون مدى صحّته، أو مدى بعض صحّته على الأقلّ، أو عدم صحّته نهائياً. السينما غير مُقيَّدة، لامتلاكها حرية بحثٍ وتنقيب وقول. مع هذا، تُصاب أحياناً بتزويرٍ، يُفترض بعارفين ومتخصّصين التصدّي له. سؤال الحاجة إلى أوليفر ستون لبناني متأتٍ من براعة المخرج الأميركي في كشف "مخبّأ" في محاكمات وتحقيقات أميركية في الاغتيال السياسي للرئيس الأميركي جون كينيدي (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963). براعة محصّنة بخبرة وذكاء ذاتيّين، وثقافة ووعي معرفيّين، وحماسة وشغف سينمائيّين. مئات الساعات المُصوّرة، المدعومة بآلاف الوثائق والتسجيلات والمستندات المسموح بالاطّلاع عليها، تصنع "ج أف ك" (1991) بنسختين: أولى بـ189 دقيقة، وثانية بـ206 دقائق (Director’s Cut).

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

يصعب التغاضي عن فيلمٍ كهذا أثناء الاستماع إلى قرار المحكمة الدولية في اغتيال رفيق الحريري. مناخ المحكمة مُطابق تماماً لمناخٍ درامي، يُظلِّل فيلماً يتوغّل في أعماق الحكاية، التي (الأعماق) لن تُثير اهتمام قانونيين، وإنْ تفعل هذا فلسببٍ مرتبط بمزيدٍ من تفعيل القانونيّ البحت. الإنساني والثقافي والسياسي والانفعالي مسائل حاضرة في محاكمات وتحقيقات، لارتباطها بالفعل الجُرمي بشكلٍ أو بآخر. لكن السينمائي أبرع في تفكيك هذا كلّه، وفقاً لمستندات ووقائع وتفاصيل تبقى مجرّد انطلاقةٍ درامية لا أكثر، أو مساراً لخطٍّ درامي أيضاً.

لكنّ السينمائيّ في لبنان غير متمكّن كلّياً من ارتكاب فعلٍ كهذا. المنع أقوى. التجاذبات السياسية والطائفية أعنف. المُخبّأ مُحصّنٌ، إنْ يظهر شيءٌ منه، بين حين وآخر، يُقمَع كاشفُه، والقامع يحول دون بلوغ اشتغالات الكاشِف معنيين ومهتمّين. الأسرار محميّة بأكاذيب يُصدّقها كثيرون، فتُغْتال الحقائق في مخبئها. أفلام وثائقية لبنانية ـ تقول شيئاً من المُتداول بين معنيين ومهتمّين ـ تُمنع وتُرفض لقدرتها على فضحٍ وإنْ يكن مُخفّفاً، ولبراعتها في كشفٍ وإنْ يكن متواضعاً، قياساً إلى الأعظم المُغيَّب. السينمائيّ في لبنان أعجز من أنْ يخترق أسوار أمن واستخبارات، أو قلاعا سياسية وطائفية وقبائلية، إذا تعلق الموضوع بمسائل حسّاسة، كالاغتيال السياسي مثلاً.

التجارب السابقة عديدة. اغتيالات ترافق المسار العنفيّ للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، وما بعدها، تغيب في خزائن مغلقة بشدّة. تفجيرات ومجازر بحقّ مدنيين معلّقة إلى اليوم، كأنّها حاصلة في أزمنة أخرى، وأمكنة خارج كوكب الأرض. مفقودون يُرفَض كلّ حقّ بالكشف عن مصيرهم، ويُلقى بمسؤولية إعلان موتهم على أهلٍ وأقارب وأحبّة. جرائم قتل وسرقة واغتصاب واعتداء جنسي وعنف منزلي ينال صانعوها براءة مُشوّهة، ويُتّهم ضحاياها بجُرم إغراء أو مسايرة أو صمتٍ أو ضعفٍ أو خوف أو تستّر. خزائن القضاء اللبناني مليئة بملفات معطّلة، وخزائن الأمن اللبناني مليئة بقضايا يُمنع المسّ بها، وخزائن المصارف اللبنانية مغلقة على هول إنجازاتٍ قاتلة، يُرفض الاقتراب منها بعنفٍ يوازي عنف التعطيل ومنع المسّ وهول الإغلاق. أما الأفلام المنجزة عن هذا كلّه، أو عن بعضه على الأقلّ، فـ"تُصَادَر" أمنياً/ رقابياً (مَنعاً وحذفاً وتقطيعاً وتشويهاً)، بسبب كشفها، المتواضع أصلاً، بعض المعلوم.

 

موقف
التحديثات الحية

 

الحاجة إلى أوليفر ستون لبناني، في قضية اغتيال رفيق الحريري، لن تحول دون التنبّه إلى وجود أكثر من أوليفر ستون لبناني، في قضايا مختلفة. أفلامٌ وثائقية لبنانية عدّة تُمنَع من العرض، لتمكّنها من كشف القليل مما يُثير مخاوف سلطة مبنية على الكذب والجريمة والتزوير. أفلامٌ روائية يُلمِّح أحدها درامياً إلى مسألة واقعية (اغتيال الحريري تحديداً)، يُستدعى بعض العاملين فيها إلى التحقيق، لظنٍّ أمنّي أنّ في الجعبة السينمائية ما هو "محجوبٌ" عن الأمن والاستخبارات. كشفٌ سينمائيّ لحقائق قليلة يعرفها معنيّون بها تستدعي استنفاراً بوليسياً أو عسكرياً لـ"حماية سلمٍ أهلي"، ناقص أصلاً. فيلمٌ طالبيّ، يروي حكاية اغتصاب شابّة، يقوم به بائع كعك متجوّل، يُمنع كلّياً، لأنّ عقلاً أمنياً يرى في بائع الكعك السينمائيّ "تلطيشاً" على أنّه نظام سوري (غالبية بائعي الكعك في بيروت، في مرحلة سابقة، كانوا سوريين)، واغتصاب شابّة لبنانية يعني اغتصاب بلدٍ، والاغتصاب هنا يكون احتلالاً أيضاً، وهذا غير جائز، فالنظام السوري ـ بالنسبة إلى حُكمٍ لبناني ـ صديق لا محتلّ.

في لبنان أكثر من أوليفر ستون واحد، وإنْ يختلف اللبناني عن الأميركي في أسلوب العمل، وكيفية المقاربة، وآلية الاشتغال. في الولايات المتحدّة الأميركية قوانين تحمي حرية البحث والتنقيب والقول، وإمكانيات هائلة لبلوغ المرتجى، وإنْ بصعوبة، فالعقل الأمني الاستخباراتي واحدٌ، شرقاً وغرباً. وفي لبنان قوانين تحمي جماعات حاكمة تريد طمس حقائق تُدينها فتغيّبها كلّياً، أو تمنع المتسرِّب القليل منها بين حينٍ وآخر، لتحصين أكاذيب وتزوير ولحماية كذبة ومزوّرين.

الجرائم في لبنان كثيرة. الصحافة والإعلام منفضّان عنها بشكلٍ كبيرٍ، رغم محاولات نادرة يُشتَبه بأنّ بعضها (على الأقلّ) مطلوب ضمن صراعات سياسية ومالية وطائفية. بعض الصحافة والإعلام يفضح خراباً كهذا، لكن الإمكانات قليلة. البلد غير مُهيّأ لكشف المستور، والجماعة الحاكمة تُروِّج لهذا وتجهد في منع كشف المستور. مصائب البلد، الحاصلة قبل نصف قرن، غير مُتاحة وثائقها ومستنداتها إلى الآن، إنْ تكن هناك وثائق ومستندات، وإنْ تكن هناك مصائب تستدعي كشفاً للمستور. مصائب أخرى، تحصل في البلد منذ اتفاق القاهرة (3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1969) على الأقلّ، يُمنع نشر وقائعها الحقيقية وأسرارها الخفيّة وكواليس صُنعها وتنفيذها. جريمة الاغتيال السياسي لرفيق الحريري تبلغ 15 عاماً وبضعة أشهرٍ، بينما جريمة انفجار مرفأ بيروت فحاصلة قبل 17 يوماً فقط. أيُّ حقائق سيُتاح كشفها؟ أيُّ وقائع سيُوَافَق على نشرها؟ أيُّ مُتّهم (صاحب قرار ومُخطِّط له ومُنفّذ إياه ومُشارك فيه وعارف به وموافق عليه وصامت عنه) سيُدان وسيُحاكم كمتّهم تثبَت الجريمة عليه، وليس كغطاء لمتّهم يُمنَع الكشف عنه؟

28 عاماً بين لحظة اغتيال جون كينيدي وإنجاز "ج. أف. ك." لأوليفر ستون، الكاشف معطياتٍ وتحليلاتٍ واقعيّة غير معروفة سابقاً، أو غير متداولة كفاية، أو غير مُعلن عنها كما يجب. أيحتاج اللبنانيون إلى زمنٍ كهذا (أو إلى أكثر منه بكثير) كي تُفتح الخزائن، وتُكشف الحقائق، ويُعرّى المجرمون الفعليون؟ هذا حلم لن يتجرّأ لبنانيون كثيرون على أنْ يراودهم.

المساهمون