عن مناوشات فيسبوك ومناغشاته!

02 مارس 2020
+ الخط -
(صفحتان منفصلتان ولكن متصلتان من دفتر اليوميات):

15 ديسمبر 2014:
شيء غريب أن أكون مضطراً في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لتذكيرك وأنت العاقل الراشد البالغ، بأنه لن يختفي أحد من الوجود، أو ينتهي، أو تتعقد حياته، حين تدخل إلى صفحتك على فيسبوك لتنتع عنه كلمتين في لحظة غضب، تقول فيهما إنك تراه تافهاً أو خرائياً أو حقيراً أو ليس له لازمة، خصوصاً إذا كان هذا الأحد لا يعرفك بشكل شخصي، ولن يصله رأيك، ولو وصله فلن يفرق معه ببصلة، وكل ما هنالك أنك حين كتبت ما كتبته أحسست بانتصار لحظي، حين يزول أثره، ستكرر ما كتبته بمناسبة أو بدون مناسبة، لتشعر بانتصار لحظي آخر وهكذا دواليك.

أعرف أنك حين تتحدث عن نهاية شخص ما تكرهه، لا تعني نهايته المادية، فهي بيد الله، وإنما تتحدث عن نهاية وجوده في المجال العام بشكل يستفزك، لكنك من فرط كراهيتك له، تنسى أن ما سينهي هذا "الحدّ"، سواءً كان فناناً أو كاتباً أو رياضياً أو مذيعاً أو سياسياً، ليس مجرد رغبتك في إنهائه، مهما بالغت في إعلانها، بل عوامل كثيرة أبعد من ذلك، هو على رأسها، أعني كم الأخطاء التي سيرتكبها فتؤدي للتعجيل بنهايته مثل الغباء والكبر والعناد وعدم الرغبة في التطور، تماماً مثلما قد يستفيد من كم القرارات الصحيحة ـ أو الأذكى وإن لم تكن صحيحة أخلاقياً من وجهة نظرنا ـ التي قد يتخذها فيبقى بفضلها على الساحة لفترة أطول، وربما دفعك بسبب تلك القرارات إلى الحيرة في أمره، أو ربما تغيير رأيك فيه، ولن يفرق رأيك الجديد فيه إلا إذا كان يعرفك بشكل مباشر، حينها يمكن أن ينبسط منك أو يزعل لأنك لم تكن تحبه من قبل، لكن انبساطه أو زعله منك سيظلان لحظيين، مثل انتصارك عليه على صفحتك في فيسبوك أو حسابك على تويتر.

لكن، هل يعني ما أقوله أن على الناس أن تتوقف عن إعلان آراءها فيمن تراه تافهاً أو خرائياً أو حقيراً أو ليس له لازمة؟ بالطبع لن يحدث هذا حتى وإن تمنيته وعملت جاهداً من أجله أنا ومن هم أجعص مني، وهذا من مظاهر جمال الحياة وتعقيدها، كلنا نعرف نهاية الأشياء، ومع ذلك لا نكف عن محاولة صنع نهايات جديدة، حتى أغلب الذين يدعون أنهم توقفوا عن المحاولة، يحاولون لكنهم "ما بيقولوش على النتّ"، وأسأل الله لنا ولهم داوم المحاولة والمعافرة، مهما علت علينا أمواج الإحباط.


طيب، ما هي مشكلتي إذن الآن؟ ببساطة مشكلتي مع الحزق، خصوصاً حين أعرف أنك بحكم وعيك وتكوينك وتجربتك تعرف جيداً أنك لن تنهي أحداً بإعلان رأيك، ومع ذلك تأخذ الحكاية بشكل شخصي وتبالغ في الحزق والأفورة وأنت تعبر عن رأيك فيه، فيتصور البعض أن مسألة إنهائه من الوجود أصبحت أهم أنشطتك البشرية، وليس لدي مشكلة أن يكون ذلك اختيارك، لكنني لا أملك منع نفسي من التعبير عن أساها، حين أعلم أن انشغالك وأنت الموهوب القادر على النفع، أصبحت منشغلاً بإنهاء وجود من تكرههم، أكثر من انشغالك بإعلان وجودك، وبدلاً من أن يصبح محاربة من تراهم تافهين وخرائيين وحقراء وليس لهم لازمة، واحداً من أنشطتك البشرية، أصبح هو نشاطك البشري الوحيد، وهو ما قد يحولك من راغب في محاربة التفاهة والخرائية والحقارة، إلى نموذج مثير للشفقة يساعد صخبه وضجيجه على لفت الأنظار إلى من كان يمكن أن يتم التخلص منهم، بنشر ما تراه أفضل وأجمل وله لازمة.

...

15 ديسمبر 2019:
للحظات فكرت أن أكتب تعليقاً على مناوشة بين صديقين عزيزين، بخصوص فيلم أعجب أحدهما به جداً، وكرهه الآخر جداً، لأنصحهما في تعليقي بالصبر والتأني، لأن المسألة لا تستاهل كل هذه الحمقة، فمخرج الفيلم الذي يختلفان حوله له جمهور إما أن يحميه ويدفعه لصنع المزيد من الأفلام، أو يربّيه ويقعّده في البيت بعض الوقت، لكنني تراجعت عن كتابة التعليق حين شعرت أنه يحمل شبهة أداء أفراد "شرطة فيسبوك"، أو "مطاوعة السوشيال ميديا" الذين يزجون أوقات فراغهم باللف على البوستات والتغريدات، ليتمّموا على مطابقتها للمواصفات القياسية الدينية والأخلاقية والأدبية والصوابية السياسية.

ذكّرت نفسي بأن فيسبوك وإخوته، مصنوعون في الأصل كأداة شخصية أو شخصانية، وكوسيلة استعراض فردي، لأن الكتابة في الأساس أداة استعراضية مهما صاحبها من أغراض نبيلة، ودعك من جو التواصل الاجتماعي والكلام "الكسكسي على حمصي" الذي يطلقه مارك زوكربرج وأمثاله عن أهمية أن يتصل العالم ببعضه ويحضن أفراده بعضهم، فقد يكون ذلك صحيحاً في أوقات ما، حين يتوفر لها الظرف الاجتماعي الملائم، عندها بالفعل يمكن أن يصبح فيسبوك وتويتر ويوتيوب وما شابههم أدوات لتشبيك الناس ببعضهم بطريقة أفضل تقاوم تعتيم السلطة أو قيود الرقابة، لكنهم في ظرف اجتماعي آخر، يمكن أن يصبحوا أدوات لنشر الأكاذيب وتضليل الناس وإبعادهم عن بعضهم، ومن الحماقة أن يلقي الناس على هذه الأدوات باللوم الكامل ويتصوروا أنها تصنع الواقع من فراغ، مثلما من الحماقة أن نتصور أنها أدوات قادرة على تغيير العالم دون أن تكون مرتبطة بحركة ما على أرض الواقع.


للأسف، بعد أن تم إغلاق المجال العام في بلادنا بالضبّة والمفتاح، وبعد أن أصبحت وطأة الحياة أثقل من اللازم لأسباب لا تخفى على محاشم حضرتك، أصبح أغلبنا يتعامل مع "السوشيال ميديا" بوصفها ملعب الحياة الرئيسي، وأحياناً الوحيد، ولذلك يتم التعامل مع ما يُكتب فيها بجدية أكثر من اللازم، مع أنها كما يفترض أماكن لتصدير الانطباعات، التي ليس مطلوباً منها أن تكون أحكاماً أو تقييمات نهائية، وبالتالي لم يعد من الممكن أن تقوم بمقاومة تحميل البعض لما يُكتب فيها بأكثر مما تحتمل، لكنك تستطيع إن أردت أن تتجاهل قيامهم بذلك، وتركز في تطوير ما كتبته عليها ليصبح كتابة أفضل تنشرها لاحقاً، أو تتركه كما هو، لأن "الحياة هي في مكان آخر" على رأي ميلان كونديرا، وإن كانت الحياة إن جئت للحق، لم تعد في مكان آخر تماماً، خصوصاً بعد أن أصبحنا نعيش في زمن للرأي الخطأ فيه ثمن فادح، يدفعه الناس حين يقولون كلمة يعتبرها الآخرون خطئاً، وبدلاً من أن ينالوا فرصة مراجعة ما قالوه، يتعرضون للسجن أو التكفير أو الوصم أو النبذ أو البضن.

لا أريد أن أبتعد عن الهدف الرئيسي من كتابة هذه السطور، وهو مسألة الأحكام على الكتب والأفلام والأغاني في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أعتبر أفضل ما قيل فيها مؤخراً ما قاله الروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف ـ وهو من الذين أحب كتابتهم وترجماتهم ومواقفهم وترشيحاتهم للكتب ـ خلال حوار أجرته معه صحيفة (القاهرة) عن أسماء الذين يثق في ترشيحاتهم للكتب، فقال إنه أصبح يثق أكثر في تجاربه الشخصية مع الكتب، لكنه حين يجد بعض أصدقائه يشكرون بشدة في كتاب، يعرف غالباً أنه لن يُعجب بذلك الكتاب، لأنه عانى كثيراً في السابق من ترشيحات لهم، ومع الوقت استطاع تكوين انطباع عن اختلاف ذائقتهم بشكل كامل عن ذائقته، وبالتالي وجد أنه من الأحسن ألا يضيع وقته في الكتب التي تعجبهم، وأصبح مديناً لهم بأنهم يوفرون عليه وقتاً كان يمكن أن يضيع في قراءتها.

كلام أحمد عبد اللطيف يشير إلى دور مهم جداً يمكن أن تلعبه "السوشيال ميديا" هو الترشيح بالاستبعاد، حيث ندرك أننا يمكن أن نتفق مع أصدقائنا في مواقف سياسية وأخلاقية هي الأهم والأجدى، لكننا لا يمكن أن نتفق بالضرورة في أذواقنا في الفنون والآداب، لأن هذه هي سنة الحياة، ولأن "كل فولة مسوّسة لها كيّال نتن" طبقاً للمثل الشعبي الذي قمت بتحريفه في أحد أفلامي، وبالتالي حين يقول أصدقاؤك آراء في الفن والأدب، تراها عبيطة، أو قد تبالغ أحياناً فتراها منحطة، فكل ما هو مطلوب منك أثناء تميّزك غيظاً بسبب تلك الآراء، أن تتذكر أن أصدقاءك يتميزون بغيظ مشابه وربما أشد من آراء وتفضيلات لك قد يعتبرونها أعبط وأضل، وبالتالي لا داعي لأن تضيعوا وقتكم في مناقشة أذواق بعض، لأن "الأذواق لا تُناقش ولكن تُناغش"، وبما أن المناغشة أصبحت صعبة مع ناس هذا الزمن، وهم على آخرهم طيلة الوقت، فعليكم أن تعتمدوا سوياً ودون اتفاق موضوع الترشيح بالاستبعاد، وتعتبروا تلك خدمة صامتة وغير مرئية تقدمونها لبعضكم البعض، وتشكرون بعضكم البعض عليها بدون إعلان يجرح صداقتكم، لأن الإنسان كائن غضوب و"قمّاص" بطبعه، مهما ادعى العكس.

والله أعلم.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.