عن مدينةٍ على خط الزلازل

01 نوفمبر 2017
+ الخط -
كان يعد نفسه واحداً من المهاجرين العراقيين الأول، فقد هجر بلاده قبل أكثر من خمسة عقود. وفي حينها، لم يكن العراقيون قد عرفوا معنى الهجرة أو النزوح بعد، لكنه اتخذ قراره قطع دراسته الثانوية والهجرة، بعد تعرّضه لصدمة يأس ونفور، إثر فقده والده في ما سُمي لاحقاً "مجزرة كركوك" في نهاية خمسينات القرن الراحل، وقد ظل، وهو في انتقالاته بين أكثر من بلد، على صلةٍ بمدينته الأولى، يشدّه إليها حنين غامر، يتابع أخبارها ويستقصي أحوال أهلها، كما لو كان مقيماً بينهم، وكلما غلبه الحنين شدّ الرحال إليها، ليقيم فيها شهوراً، يتزود من مائها وهوائها ما يعينه، كما يقول، على استئناف هجرته من جديد.
رجعت إليه، وقد عاد من زيارته الأخيرة قبل أيام، وقد قدّر له أن يشهد فيها آخر فصول "الزلزال" الذي هزّ شمال البلاد. ووجدت الفرصة سانحةً لأساله عما شاهده وسمعه، قال: "أنت تعرف أن عيون الأجانب كانت دائماً على كركوك، إذ تعدل مكانتها لديهم مكانة بلدٍ، لأنها تعوم على بحيرة نفط لا ينضب خزينها، ربما إلى نهاية القرن، وتعرف أن الإنكليز كانوا أول من تعامل مع ثروتها في العشرينات، عندما راقبوا نارها الأزلية التي لم تنطفئ منذ القرن الخامس قبل الميلاد، متحدّية كل أعاصير الطبيعة، ومتعايشةً مع كل الأقوام التي تصارعت من حولها على مدى زمن طويل. ولعلك تتذكّر أنهم يرجعون الفضل لأنفسهم في جعل نفط كركوك في متناول ماكنة الحرب الغربية، وقد دخلوا في مناقشاتٍ مع الفرنسيين، جرّاء ذلك عندما رسمت خريطة اقتسام التركة العثمانية. وقد حصلت فرنسا على حصةٍ، كما حصل الأميركيون الذين عرفوا قيمة كركوك، عندما أوصوا جنودهم الزاحفين إلى العراق، عند نشوب الحرب العالمية الثانية، بحمايتها والدفاع عنها، وحذّروهم من احتمال سقوطها بيد جنود هتلر، وقد استجدّت لاحقاً ظروفٌ وأحوالٌ، دفعت لاعبين إقليميين، مثل الأتراك والإيرانيين، إلى حلبة المنافسة، وكل له حساباته واعتباراته، خصوصاً عندما قوت شوكتهم وحل الضعف بالعراق، في ظل الغزو الأميركي ومفاعيله".
وتوقف محدّثي، في سرده التاريخي، هنيهة، ليستجمع أفكاره على ما يبدو قبل أن يتابع: "مع صراع الدول على كركوك، كان ثمة صراع آخر داخلها على خلفية التنوع السكاني الماثل فيها، والذي جعل منها قطعة فسيفساء ملونة: عرب، أكراد، تركمان، آشوريون، صابئة، مندائيون، أيزيديون، شبك، آخرون. وقد كانت العلاقة بين كل هذه المكونات سلسةً وهادئة في مراحل عديدة، وبخاصة في عهد الملوك، لكن الاحتراب بينها أخذ طريقه، عندما استغلت الحركات السياسية، سواء منها التي في السلطة أو في المعارضة، هذا التنوع، لأغراض تحقيق مآرب لها، منذرة بتحولات ديموغرافية، خافتة أحياناً، وشديدة الوطأة أحياناً أخرى. وظلت موضع شك وريبة أرقامٌ عن نسب التجمعات السكانية في المدينة ومحيطها، طرحتها إحصائيات ساهمت في إذكاء هذا الاحتراب، إذ عكست ما جرى من عمليات تهجير لفئة عرقية معينة، وعمليات توطين مقترنة بامتيازات مغريةٍ لفئة عرقية أخرى، تتم بإرادة حكومة بغداد، أو بترتيب من حكومة أربيل، وطبقاً لخطط تعريب أو تكريد ممنهجة، واحدة منها تمت عبر تشريع قانوني مثير للجدل، أقره النظام السابق بتغيير قومية مواطنين عراقيين من غير العرب إلى العربية، يضاف إلى ذلك آثار "مجزرة كركوك" التي ما تزال تنخر في الذاكرة الحية، والتي عزاها، في حينه، الباحث الفلسطيني الراحل حنا بطاطو إلى "انفلات القسوة" و"التزمت العرقي"، وخشية أهل المدينة اليوم أن يكون هذان العاملان حاضرين من خلال "التلاسن" الحاد الحاصل على بواباتها بين الحشد الشعبي والجيش من جهة وبين البشمركة من جهة أخرى، وثمّة ما قيل ويقال عن ممارساتٍ غير مسؤولة، وأعمال سلب ونهب، ورفع أعلام وشعارات لمليشيات طائفية تغذّي مشاعر العداء والثأر".
تنهد محدّثي، مرة أخرى، قبل أن يعطي خلاصته التي بدت أشبه بحكم قاطع لا يقبل النقض: "بعد هذا التفصيل أردت أن أقول لك إن كركوك، وكذا المناطق المحيطة بها، تقف على خط الزلازل، وهي تخشى أن يختلط نفطها بدماء أبنائها، في وقت غابت فيه الحكمة، وسادت الدسيسة، وتجذّرت الألغام الطائفية والعرقية التي يصنعها هذا الطرف أو ذاك، وليس لأهل كركوك سوى أن يتجملوا بالصبر، ويتحملوا الانتظار الذي يبدو، في أحايين كثيرة، أمرّ من الصبر".
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"