عن مأوى المتسوّل

29 مايو 2017
+ الخط -
وقفت تحت المطر لمدة ساعة في أكثر مكان مزدحم في هذه المدينة العملاقة عند تقاطع للمشاة. السماء تمطر بخفة أحياناً، وبشدة أحياناً أخرى. الناس يركضون في كل الجهات، حاملين مظلاتهم ورافعين قلنسوات ثيابهم محاولين تفادي المطر بكل الطرق الممكنة.

بعضهم يحدق لوهلة بالفتاة الغريبة التي تقف دون حراك، وبعضهم الآخر يجري وكأن العالم يختفي من حوله. أغلبية المارّة يضعون سماعات الأذن ولا ينظرون حولهم أبداً. غائصون في عالمهم الداخلي. وحدي أنا والرجل المشرد في مكاننا ثابتان.


ساعة كاملة، أو ما يقارب الساعة، أقف دون حراك، ولا أجد تفسيراً لفعلي الجنوني هذا، سوى أنني أحتاج بين الحين والآخر لأحس بأني لا شيء. بأني لا أحد. وهذه الأبنية الشاهقة في قلب المدينة تفي بالغرض. أحتاج لأن أرى حجمي الضئيل في هذا العالم، لأن وجودنا غالباً ما يكون عبئاً علينا. إدراكنا الوجودي ثقيل على أرواحنا. أن أكون "أنا" هو شيء مرهق، وألا أكف عن التفكير في كيفية النجاة من وفي هذه الحياة لهو شيء متعب أيضاً.

أحياناً، عليّ أن أرى بعينيّ أني لا أساوي شيئاً، وبأن وجودي في مكان ما هو محض فرضية سخيفة. وبأن الحياة لا تأبه بي، وبأنه لا بأس بذلك. هذه هي الحقيقة التي نحاول الهروب منها كل يوم. بعد ما يقارب نصف الساعة على وقوفي، وجدت في جيبي قطعتين نقديتين: نصف دولار وربعه. وضعت القطعتين في الكأس الفارغ الذي يهزه الرجل المشرد وعدت إلى مكاني الذي علّمته ذهنياً على أنه نقطة التقاء أربع بلاطات.

أصبحت الكأس تصدر ضجيجاً كجرس. بعد ما يقارب ربع الساعة من فعلي هذا ناداني الرجل المشرد لأجلس تحت مظلته. قلت له مراراً إنني لا أمانع التبلل تحت المطر، لكنه ظل يعيد جملته "ستتبللين، قفي هنا"، وكأنَّه لم يسمعني. بعد دقيقتين تقريباً بينما جلست إلى جانبه على الزاوية، قال لي "ألديك عشرة دولارات كي آكل وجبة ساخنة؟"، قلت له إبني أعطيته كل الفكة التي بحوزتي. ومن ثم خرجت مني جملة لم أتوقعها، خرجت ككل الحقائق التي تهرب من أفواهنا مسرعة قبل أن يعتقلها وعينا القمعي. قلت بعفوية: أنا أيضاً من دون مأوى. هز الرجل رأسه بهدوء غير مفهوم، وكأنه فجأة أحس بأننا متشابهين. خرج من خانة المتوسل إلى خانة الند المتساوي نوعاً ما.

سألته، منذ متى وأنت في الشارع؟ قال: خمس عشرة سنة. رددت الرقم بدهشة تفضح سذاجتي. ثم سألني: وأنتِ؟ منذ متى وأنت بلا مأوى؟ صمتّ للحظة أتفكر بما للمأوى من معان، لحظة واحدة انفجرت فيها كل الأسئلة؛ ما هو المأوى حقاً؟ هل هو مجرد سقف يعلو رؤوسنا؟ أم إحساسٌ بالانتماء؟ هل هو عائلة وأصدقاء، أم وطن وصك ملكية؟ ما هو المأوى؟ هل هو حبيب ما؟ ورقة زواج؟ خاتم؟ أم هو قبوٌ يؤوينا من براميل تمطر على حيّنا؟ هل هو مخيّم؟ خيمة؟ أم امتدادٌ لقطعة حديد عالية نرتمي تحتها إلى أن تذهب العاصفة؟

ربما الأمر أبسط مما أتخيل، وربما أمتلك رفاهية التفكير بالمأوى بشكل فلسفي لأني أعلم بأني سأنام تحت سقف ما الليلة. ربما المأوى بالنسبة لهذا الرجل هو هذه المعرفة بالذات، هذا التأكد، ولو لمرة واحدة، بأنه سينام على سرير ما الليلة. لمت نفسي بشكل سريع لأني أجبته بأني مثله، يا لسخفي وكذبي. لكن الوقت قد تأخر لأتراجع عن كذبتي المثيرة للشفقة الآن، ولاعترافي الداخلي بأنها ليست كذبة كاملة، ليست حقيقة كاملة، لكنَّها ليست كذبة كاملة أيضاً. أجبته على الفور إجابة مفتوحة وخالية من المعنى: "لأشهر". فالأشهر قد تكون أياماً، وقد تكون سنوات وسنوات. لم يستفسر أكثر. جلسنا في صمت مريح، بينما هو يهز كأسه التي تحوي الفكة التي أعطيته إياها ولا شيء سواها. الناس تمضي من حولنا وكأننا وحاوية القمامة التي نجلس إلى جانبها، كيان واحد. لقد حظينا ببعض التحديقات كوني شابة بيضاء البشرة "نظيفة" الملبس تجلسُ إلى جانب رجل أسمر يطلب المال، لكن هذه التحديقات لم تجعل أحدهم يتوقف أو يرمي ببعض الفكة.

غضبت لوهلة بكامل سذاجتي التي بتّ أعيها بشكل مخيف، وبدأت بالصراخ معه "ضع بعض المال، إنها تمطر! ضع بعض المال، إنها تمطر!". لم يضع أحدٌ شيء، ثمَّ قرَّر الرجل بتغيير مكانه لأن هذا الشارع "غير مربح" على حد قوله. ابتعد وهو ينصحني ملحاً بأن أحتمي ببناء ما من المطر، وبقيت أنا في الزاوية التي تقع خارج الزمان والمكان، مبللة بشكل كامل، أسأل نفسي للمرة الألف: ما هو المأوى؟
6B144601-1E0C-4B65-BAB6-DE98BF1405BF
سارا هنيدي

مدوّنة سوريّة، وطالبة في الدراسات الشرق أوسطية والدراسات الجندرية. مقيمة في شيكاجو، في الولايات المتحدة الأميركيّة.تقول: "أحد أكبر الحركات الثورية التي تستطيع المرأة القيام بها، هوعدم تبرير نفسها لأي أحد".

مدونات أخرى