عن حبيبنا وصديقنا "فيسبوك"

17 ابريل 2018
+ الخط -
بالكاد اعتذر مارك زوكربيرغ في الجلستين اللتين مثل فيهما للاستجواب أمام مجلس الشيوخ والكونغرس الأميركي، حول أمور تتعلّق بقواعد الخصوصية وحماية بيانات المستخدمين عبر "فيسبوك". بالكاد اعتذر عن تورّطه في الفضيحة المجلجلة التي احتلّت مركزَها مؤسسةُ الاستشارات السياسية وتحليل البيانات، كامبريدج أناليتيكا، إذ اتُهمت باختراق خصوصية الملايين من مستخدمي "فيسبوك"، واستخدام بياناتهم بشكل غير شرعي، بغية التأثير على آراء نحو 50 مليون ناخب أميركي وقراراتهم.
بالكاد اعتذر المليونير البالغ من العمر 33 عاما، هو الذي يُعتبر قدوة للاتّباع، ومثالا للنجاح المقترن بالعبقرية، والذي كان، منذ العام 2015، على بيّنة تامّة بخطورة ما يجري من حوله. وما كان يجري هو أن مؤسسة "كامبريدج أناليتيكا" التي كانت متعاقدةً مع حملة دونالد ترامب خلال الانتخابات الأميركية التي أدت إلى فوزه استخدمت بيانات مستخدمي شبكته، لدراسة شخصياتهم وتحليل توجّهاتهم السياسية المحتملة، وأنه على الرغم من إدراكه ذلك، امتنع عن إبلاغ المشتركين بما يجري من وراء ظهورهم. وحين توجّه إليه صحافيون بإثباتاتٍ تشير إلى سياسة التمويه والكذب التي يتّبعها، هدّدهم واتهمهم بالقدح والذمّ. أمّا حين انتشرت الفضيحة، فقد اكتفى بتحميل المسؤولية ل"كامبريدج أناليتيكا" وحدها، قبل أن يوجّه اللوم من ثم إلى المستخدمين أنفسهم الذين "كان عليهم أن يجيدوا حماية بياناتهم". ومما قاله في جلسة استجوابه: "من المستحيل أن تباشر شركتك نشاطها من غرفةٍ في السكن الجامعي، ثم تنمو وتتطور بهذا الشكل الهائل، ولا تقع أية أخطاء"...
والأخطاء التي يشير إليها زوكربيرغ ببراءة يفترض أن تشي ببساطتها، أو لنقل بقلة خطورتها، هي في حدّ أدنى انكشاف المعلومات الفردية والخاصة في سماء "فيسبوك" وما يشابهها من شركات وسائل اتصال اجتماعية أخرى، وهشاشة تلك الديمقراطيات الرقمية القابلة للاستغلال والمتاجرة والتوجيه، تبعا لأهدافٍ لا تبتعد الشيء الكثير عمّا جاء وصفه من قولبة للدماغ البشري وملئه بما يرضي مصالح القوى المسيطرة، في أعمال أدبية مؤسِّسة، مثل أعمال فرانز كافكا وجورج أورويل، وسواهما من الكتّاب الذين دقّوا ناقوس الخطر لناحية هيمنة عالم التكنولوجيا على عالم البشر.
في مقالة مهمة نشرها فرنسوا شولليه، (مهندس في شركة غوغل وباحث في حقل الذكاء الاصطناعي)، مطلع شهر إبريل/ نيسان الجاري، يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس بالضرورة رجلا آليا يشبهنا، بل هو، في أغلب الأوقات، برامج معلوماتية تعمل على استكشافنا بهدف استغلالنا وتكييفنا بما يتلاءم ومصالح قوى اقتصادية وسياسية عليا. خلال السنوات العشرين الماضية، انتقلت حيواتنا العامة والشخصية إلى شبكة الإنترنت، بحيث بتنا نمضي أوقاتا متزايدة من نهاراتنا على شبكات تواصل اجتماعي، تعمل على إبراز مواد تشدّ انتباهنا وترويجها، بيد أن هذا ليس سوى الجزء البارز من جبل الجليد، فمن خلال المزج ما بين تطوّر الذكاء الاصطناعي وبيانات الشبكات الاجتماعية، بات قريبا جدا خلقُ برنامج معلوماتي قادر على تحديد نفسياتنا، وتكييف مشاعرنا وقولبتها، بهدف التلاعب بنا كمجموعات بشرية. النفس البشرية نظام ثابت وهشّ، يقول شولليه، وهو سيكون عرضة في المستقبل، أكثر فأكثر، لهجوم برامج أكثر فأكثر ذكاء، تتزايد صعوبات مقاومتها.
والحال أن شبكات التواصل الاجتماعي، على تنوعّها واختلافها، تعمل، منذ بضع سنوات، على حلّ مثل تلك الصعوبات والتغلّب عليها، وهي تنجح في تحقيق هدفها ذاك، وفي بلوغ نتائج معبّرة. وإن كانت في الأصل، أو في العلانية، تسعى إلى رفع درجة "التزامنا" الاستهلاكي من خلال التأثير على أذواقنا وقراراتنا الشرائية لصالح هذا المنتج أو ذاك، فهي تنحو بشكل أكيد ومتزايد إلى التأثير على رؤيتنا للعالم، على برمجة أفكارنا وميولنا وقناعاتنا، بحيث نشهد ارتفاعا ملحوظا في محاولات الاستيلاء على ما تستخدمه تلك الشبكات من أدوات وبيانات، من أطراف فاعلة، من أجل أهداف سياسية.
كل هذا، ومارك زوكربيرغ يقرّر لنا، نحن مستخدمي "فيسبوك"، ما نشتري ونحبّ وحتى ما نقرأ (في نادي كتبه)، فيما هو يعمل على بيعنا لمن يدفع أكثر.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"