عن حال الفلسطيني والباقي أفظع

26 يوليو 2014

فلسطيني يقف على أنقاض بيته الذي هدمه الاحتلال(فبراير/2014/Getty)

+ الخط -

بنظرةٍ شاملة، على حال المواطن الفلسطيني، نخرج باستنتاجات عديدة، من أخطرها أن إسرائيل، ومعظم الكيانات السياسية العربية؛ اجتمعت على هدف تيئيس الفلسطينيين من فكرة النضال الوطني، ودفعه إلى تصفير حقوقه، لكي لا تعلو قيد أنملة، عن حقوق القطط في محض العيش والحركة، ضمن حدود وجودها في الحيّز المتاح. ويُقال، في تعليل كل هذه التدابير، إن الكيانات العربية تخشى من أن تدهمها لحظة التسوية التي يتعين عليها، بموجبها، توطين الفلسطينيين في بلادها. وعليه، فإن لكل نظام الحقّ في دفع "الشر" عن نفسه.

فالكيان الصهيوني الغاصب الملفق، يعمل على جعل الضفة الفلسطينية منطقة طاردة، لا جاذبة، لسكانها وأهلها. ولعل إطلالة سريعة على ما يجري في "جسر الملك حسين"، وهو منفذ الخروج والإياب للفلسطينيين القاطنين في الضفة؛ يكفي لاختزال الحال.

ترى هناك، على معبر "الجسر" اكتظاظاً وتدابير مرهقة، بذريعة الأمن، وتجريداً للعابرين من كل شوكة معدنية في حجم دبوس، والتزيّد في التفتيش وفرض نزع الأحزمة، حتى لا يتبقى شيء، يستحثّ رَنَّة جهاز البوابة المغنطيسي. ولك أن تتخيل إرجاع السيدة العجوز وسط الزحام، المرة تلو الأخرى، حتى لا يكون ثمة دبوس يتهدد إسرائيل. ويعرف المحتلون أن السيدة العجوز لا تحمل صاروخاً ولا بندقية، ويعرفون ألا شيء معها يتهدد إسرائيل، ويعرفون أن القادمين من الأردن إلى الضفة، لم يأتوا من دولة للسلفية الجهادية.

ولو كانوا أتوا منها، وكانت قائمة، فإنهم يمرون بالبلد المجاور، الذي يتوفر على تدابير أمنية كافية، لا تدع بعدها زيادة لمستزيد إسرائيلي. لكنه المنهج الذي يُراد منه تبغيض الفلسطيني من العودة إلى وطنه، بالتساوق مع عمليات البناء الاستيطاني الزاحف. ففي هذا المنهج، يختلط امتهان آدمية الإنسان، بالسماجة وافتعال الجدية والذعر، في سياقٍ يجعل كل عنصر من الجيش والأمن الإسرائيليين، قائماً على مهمة خداع وتدليس!

ذات مرة، كنت خارجاً من الضفة، مع صديقي القديم، منير غنام، سفير فلسطين في دولة قطر. وصديقي هذا، وهو زميل لي منذ أيام الشباب اليافع، كان فقد ساقه في قصف إسرائيلي، فاستعان بطرف صناعيٍّ، يستكمل الساق المبتورة. كنا خارجين من الضفة، لا عابرين إليها، أي إن الخطر الأمني، لو كان قائماً فعلاً، فإنه لا يطال وجودهم. ولمّا سُمع رنين الجهاز، كشف الرجل عن ساقه الصناعية، توخياً لتفسير سريع للرنين. ومن ذا الذي "يجازف" منهم، بالتغاضي عن أي رنين؟ حاولنا، منير وأنا، شرح الموقف.

خواطر سريعة اختلجت في ذهني، في تلك اللحظات. لقد قصفوا الرجل، قبل نحو أربعين سنة، واليوم، يتوقفون ويفتعلون الذعر من ساقه الصناعية البديلة. هم يريدون منه أن يختار إحدى اثنتين: التجرد من ساقه الصناعية، أو أن يكابد مشقة العبور والخروج. وفي كلا الخيارين، سيكون صعباً عليه القيام بالرحلة. يومها انتظرنا، وقتاً طويلاً، وصول "خبير" يحكم على السلامة الأمنية. هم يستهدفون وجوده في وطنه، لكي لا يتكاثر نسله على أرض الآباء والأجداد، فيزداد عدد سكان قرية "تِل" التي يتحدر منها!

على جانبي الجدار العنصري في الضفة، يكابد المواطنون الفلسطينيون مشاقّ الحياة، وينقطع تواصلهم. وتتوجع مسافات الحركة بين المدن والقرى في الضفة نفسها، بفعل منظومة الحواجز التي يُشهر الجنود عندها سلاحهم في وجوه الناس (وكل شىء متوقع). يتحول إيقاع الحياة إلى مزيج من الحذر والإرهاق والمجاهدة ثقيلة الوطء.

لا تُسمَع أحاديث بين الناس، من دون أن تخالطها الشكوى من إيقاع صعوبة الحياة. ذلك ناهيك عن أكلاف المعيشة فيها. للسيجارة في الضفة غوايتها للمتعبين والمكلومين والشُبّان العاملين بأجور زهيدة. وأية سيجارةٍ تتاح للشاب، وقد بلغت ضرائبها ما يزيد عن 400% بذريعة الارتباط بالسوق الإسرائيلية.

في زيارتي الأخيرة للضفة الفلسطينية، كان الارتفاع الأخير في ثمن علبة السجائر مثيراً للعجب والسخرية المريرة. فقد أصبح 25 شاقلاً (أي سبعة دولارات ونصف الدولار)، أي أعلى من سعرها في سويسرا. ولأن الفلسطيني يشتق من الألم ومضة خير ومعاندة للواقع؛ فإن مزارعي التبغ العربي، في جنين، وجدوا ضالتهم في مأزق السيجارة، وكذلك وجد بائعو البقالة بعض رزقهم، وربما وجد بعض الرزق فتية لجأوا إلى جمع علب السجائر الفارغة، لتسليمها للقائمين على الحلقة التي بعدهم، من عملية إنتاج سلعة تدخين بديلة.

يُصار إلى تعبئة التبغ العربي، في لفائف ذات فلترات، بأدواتٍ بلاستيكيةٍ، صنعت لهذه الغاية. وتوضع كل عشرين لفافة، في علبة فارغة، يتسلمها البقال بأربعة شواقل، ويبيعها بخمسة. ومن لا يقوى على الخمسة، فإن لدى منتجي الدخان البديل بديلهم. يضعون العشرين في كيس بلاستيكي، يتسلمه البقال بشاقلين ويبيعه بثلاثة، ويتولى المشتري تعبئته في علبة عتيقة لديه!

سألت الشاب الدمث، المنضوي في أحد الفصائل، والطالب في جامعة فلسطينية، والعامل هو نفسه في أحد الفنادق بأجر جدُ قليل: وما الذي يضطرك إلى تدخين تبغ رديء، فيما المنطق أن تقلع عن التدخين أصلاً؟ أجابني باستفهام إنكاري: تريدني أن أحترق أنا، ولا تحترق السيجارة؟

لا موجب في هذا المقام، لحديثٍ مستفيض عن عذابات الفلسطينيين في أقطار عربية. ليلة أمس، زرت في القاهرة، طاعناً في السن، من مدينة يافا عروس البحر أصلاً، لكي أتعرف عليه للمرة الأولى. هو والد زوج ابنتي المقيم معها في النمسا. توقفت معه عند المفارقة، وهي أنني أتعرف عليه بعد سنوات من المصاهرة. أجابني: لا عليك، وخذ عندك. عندما خرجنا بحراً، من يافا، تحت النيران، اضطربت المراكب. قفز والدي إلى "شختورة" أخرى، وأنا وأمي وإخوتي، كنا في مركبٍ شقَّ طريقه إلى بور سعيد.

عشرة أعوام لا نعرف إلى أين ذهب والدي، وأين استقر. الوحدة بين مصر وسورية في العام 1958 جمعتنا. اكتشفنا أنه في سورية، وقد تزوج واستقر. التحقت بكلية للرياضة البدينة، وتخرجت وعملت في الكويت. كنت أحافظ على إقامتي في مصر، وأجددها سنوياً. حتى الآن، ظل تجديدها سنوياً. التزمت بشرط عدم الغياب عن مصر أكثر من ستة أشهر لكي لا أفقد حق الإقامة. الحاجة معذورة لا تستطيع الآن، التعرف عليها. لديها معزّون، فقد توفيت أختها قبل يومين في عمان. حاولنا إرسالها بوثيقتها المصرية إلى هناك، لكي تلقي نظرة الوداع على شقيقتها، فطلبوا خمسة آلاف دينار للتأمين وضمان خروجها بعد النظرة!

إنها حال فلسطينية، يُثاب عليها الإنسان، كلما ظل رافضاً أن يتحول إلى سلفية جهادية. والحال تزداد سوءاً. لم أكن أتصور أن الجزائر التي نحبّ أوقفت السماح للفلسطيني بالسفر إليها، والباقي كثير!