17 ديسمبر 2017
عن تهمة معاداة السامية ضد عرب ألمانيا
زهير سوكاح
أستاذ وباحث مغربي في ألمانيا، الدكتوراه في الأدب الألماني من جامعة دوسلدورف.
أشرت، قبل خمسة أشهر، إلى مقدمات تشكل حملة إعلامية جديدة في ألمانيا، بغرض تأليب الرأي العام ضد الوافدين الجدد من إخواننا السوريين، وخصوصا العنصر الشبابي؛ المحرّك الأساسي آنذاك للاحتجاجات الحاشدة تنديداً بقرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نقل سفارة بلده إلى القدس المحتلة (العربي الجديد، 17-12-2017)، حيث تم اتهامهم بمعاداة السامية، لمجرد نجاحهم في تنظيم تلك المظاهرات على قلتها ومحدوديتها، والتي فاجأت، على الرغم من ذلك، اللوبي الصهيوني الأقوى في ألمانيا، والذي استغل تلك المظاهرات لتخويف يهود ألمانيا من الوافدين العرب الجدد، من أنهم معادون لهم، على الرغم من أن أهداف مظاهراتهم كانت واضحة: التنديد بالقرار الترامبي الداعم والمكرّس للاحتلال الإسرائيلي. فكيف يمكن أن تكون هاته المظاهرات بهذا الهدف الاحتجاجي معاديةً للسامية؟ وهذا ما دفع الكاتب الألماني اليهودي، أرمين لانغر، بعد شهر تقريبا من بداية تلك الحملة العشواء، إلى مطالبة الإعلام الألماني بتقديم اعتذار صريح لليهود وللمسلمين، ليس بسبب تخويف يهود ألمانيا بلا طائل فحسب، بل أيضا بسبب شيطنة هؤلاء الوافدين الجدد، وكأنما ألمانيا لم تعرف معاداة السامية، إلا حينما وطئت أقدامهم أرض هذه البلاد.
وعلى الرغم من هذه الدعوة، وغيرها من الدعوات العاقلة من معظم الأطراف المعنية، لم تنته هذه الحملة الإعلامية بانتهاء تلك المظاهرات الشبابية، بل تصاعدت حدّتها بعد ذلك، شهورا طويلة من التعميمات المبالغ فيها من معظم وسائل الإعلام الألماني، لتنجح في إنتاج نظرة توجسية وتعميمية، ليس عن الوافدين العرب الجدد فحسب، بل عن الأقلية العربية والمسلمة بأكملها، مفادها بأن هذه الأقلية وحدها من صارت الآن معاديةً للسامية فقط، بسبب ممارسة جموع من هذه الأقلية حقها في التظاهر السلمي.
أكثر من هذا: لم تتوان هذه الحملة في الربط الصريح بين الدين الإسلامي ومعاداة السامية،
بزعم وجود تأثير مُتخيل للإسلام على معتنقيه الذين صاروا بعد تلك المظاهرات بالذات "معادين للسامية"، بينما لم يكونوا كذلك من قبل. وهذا كله محاولة للتنصل من المسؤولية الأخلاقية والتاريخية تجاه هذه القضية، ومن ثمة إسقاط هذا العداء المُتوهم بشكل حصري على الإنسان العربي - المسلم دون غيره، حيث انتشرت في الخطاب الإعلامي الألماني كالنار في الهشيم تعبيراتٌ من قبيل "المعاداة المستوردة للسامية" و"المعاداة الإسلامية للسامية"، بزعم وجود علاقة ما مُتوهمة بين الإسلام ومعاداة السامية، على الرغم من أنه معروف أن معاداة اليهود هي من صلب الموروث الغربي ذي الخلفية المسيحية والعلمانية، والذي استمر قرونا، الأمر الذي لا نجده بالطابع والحدية نفسيهما في المنظومة الحضارية الإسلامية التي عاش اليهود في كنفها قرونا مديدة أقلية كتابية محمية. لهذا يقرّ الكاتب الإسرائيلي - الألماني دافيد رنان صراحة، في حوار له بشأن هذه القضية، بأن مسألة كراهية المسلمين اليهود ليست موروثا ثقافيا بمفهومها الغربي، بل تأججت بسبب احتلال فلسطين.
إذن، ليست معاداة السامية في ألمانيا "مستوردة"؛ بمعنى أنها ليست دخيلةً، ولم يجلبها القادمون الجدد من العرب، كما تصر على ذلك هذه الحملة التشويهية، بل هي موروث ديني - ثقافي غربي، يتعين التعاطي معه باعتباره قضية داخلية، إلى جانب معاداة المسلمين، بكل حزم، سيما في ألمانيا التي بلغت فيها معاداة السامية أوجها في الفترة النازية كما هو معلوم، غير أنه في عصرنا الحاضر لايزال هناك 20% من المواطنين الألمان ممن لديهم تصوراتٌ معاديةٌ للسامية. من جهة ثانية، تكفي الإشارة هنا إلى أنه تم، في السنة الماضية، تسجيل 2219 اعتداء على الوافدين العرب الجدد وحدهم، بينما سُجّلت أيضا 950 حالة اعتداء على المسلمين في هذا البلد، ما يعكس بجلاء حجم وخطورة العنصرية ضد الآخر فقط بسبب انتماءيه، الديني والعرقي.
وكما أن معاداة اليهود ومعاداة المسلمين أشكال تقليدية من العنصرية الغربية، فإن استهداف فئة مجتمعية محددة من دون غيرها بتهمة معاداة السامية بهذا الشكل التعميمي هو أيضا شكل جديد من العنصرية، ينضاف إلى ما تتعرّض له الأقلية العربية والمسلمة، ولا سيما بعد 2015، سنة اللجوء العربي نحو أوروبا الغربية، وخصوصا في ألمانيا، والتي تمكّنت فيها هذه الحملة الادعائية من الدفع إلى إيجاد نقاش عمومي بشأن هذه الظاهرة التي لم يعد يُنظر إليها أنها في الأساس ظاهرة يمينية وشعبوية، تستمد زخمها من الموروث الشعبي الألماني فحسب، بل بالأساس من أنها تحولت إلى ظاهرة وافدة وجديدة. وهنا تحديدا مفارقة هذا النقاش العمومي على الرغم من طبيعته شبه الرسمية، حيث يكرّس بدوره، في نهاية المطاف، الصورة النمطية السلبية عن الآخر "الشرقي"، حتى لو كان مواطنا ألمانيا، فقط لأنه ذو خلفية عربية أو مسلمة التي يبدو أنها صارت وحدها كفيلة بإلصاق تهمة معاداة السامية بصاحبها، لا سيما إن أبدى موقفا منحازا أخلاقيا قبل كل شيء للقضية الفلسطينية.
ومن المؤسف حقا أن تطالب أحزاب ألمانية وازنة (غير يمينية) بترحيل هؤلاء الوافدين الجدد الذين قد تثبت "معاداتهم السامية". وهنا يحق التساؤل عن كيفية إثبات هذه التهمة؛ فهل ستكون بناءً على تصرفات فردية منعزلة؟ ويحق التساؤل أيضا: هل يمكن أيضا ترحيل المواطنين
الألمان من ذوي خلفية مسيحية، إذا ثبت تورّطهم في أعمال إجرامية، بدافع معاداتهم السامية؟ وإذا كان الجواب: لا، أليس إذن هذا الكيل بمكيالين تمييزا، بل وعنصرية مؤسسية تستهدف فئة مجتمعية دون غيرها بناءً على كليشيهات مسبقة، وتصورات نمطية مُتخيلة؟ أليس من الأجدر مكافحة الكراهية الغربية لليهود وللمسلمين على حد سواء، بوصفها ظاهرةً داخليةً تهدد السلم الاجتماعي، عبر التوعية المجتمعية، ولاسيما في الحياة المدرسية وفي الواقع اليومي بين الفئات الشعبية في الدول الأوروبية عامة؟ أم أن الاتهام بمعاداة السامية صار سلاحا "جاهزًا" ومُسلطًا على رقاب الأقلية العربية المسلمة، إن هي "تجرّأت" مرة أخرى على مساندة الحق الفلسطيني، سيما مع نقل السفارة الأميركية إلى القدس؟ ستتكفل الأحداث اللاحقة بالإجابة على هذه الأسئلة. ولكن، أما آن للأقلية العربية والمسلمة في ألمانيا أن تستيقظ من غيبوبتها الحضارية، وأن تأخذ بنفسها زمام المبادرة من أجل المشاركة في بناء مجتمعاتٍ تعدّدية، يسودها الوئام المجتمعي والاحترام المتبادل والصالح المشترك، بدلا من الاختباء الدائم وراء دور الضحية؟
وعلى الرغم من هذه الدعوة، وغيرها من الدعوات العاقلة من معظم الأطراف المعنية، لم تنته هذه الحملة الإعلامية بانتهاء تلك المظاهرات الشبابية، بل تصاعدت حدّتها بعد ذلك، شهورا طويلة من التعميمات المبالغ فيها من معظم وسائل الإعلام الألماني، لتنجح في إنتاج نظرة توجسية وتعميمية، ليس عن الوافدين العرب الجدد فحسب، بل عن الأقلية العربية والمسلمة بأكملها، مفادها بأن هذه الأقلية وحدها من صارت الآن معاديةً للسامية فقط، بسبب ممارسة جموع من هذه الأقلية حقها في التظاهر السلمي.
أكثر من هذا: لم تتوان هذه الحملة في الربط الصريح بين الدين الإسلامي ومعاداة السامية،
إذن، ليست معاداة السامية في ألمانيا "مستوردة"؛ بمعنى أنها ليست دخيلةً، ولم يجلبها القادمون الجدد من العرب، كما تصر على ذلك هذه الحملة التشويهية، بل هي موروث ديني - ثقافي غربي، يتعين التعاطي معه باعتباره قضية داخلية، إلى جانب معاداة المسلمين، بكل حزم، سيما في ألمانيا التي بلغت فيها معاداة السامية أوجها في الفترة النازية كما هو معلوم، غير أنه في عصرنا الحاضر لايزال هناك 20% من المواطنين الألمان ممن لديهم تصوراتٌ معاديةٌ للسامية. من جهة ثانية، تكفي الإشارة هنا إلى أنه تم، في السنة الماضية، تسجيل 2219 اعتداء على الوافدين العرب الجدد وحدهم، بينما سُجّلت أيضا 950 حالة اعتداء على المسلمين في هذا البلد، ما يعكس بجلاء حجم وخطورة العنصرية ضد الآخر فقط بسبب انتماءيه، الديني والعرقي.
وكما أن معاداة اليهود ومعاداة المسلمين أشكال تقليدية من العنصرية الغربية، فإن استهداف فئة مجتمعية محددة من دون غيرها بتهمة معاداة السامية بهذا الشكل التعميمي هو أيضا شكل جديد من العنصرية، ينضاف إلى ما تتعرّض له الأقلية العربية والمسلمة، ولا سيما بعد 2015، سنة اللجوء العربي نحو أوروبا الغربية، وخصوصا في ألمانيا، والتي تمكّنت فيها هذه الحملة الادعائية من الدفع إلى إيجاد نقاش عمومي بشأن هذه الظاهرة التي لم يعد يُنظر إليها أنها في الأساس ظاهرة يمينية وشعبوية، تستمد زخمها من الموروث الشعبي الألماني فحسب، بل بالأساس من أنها تحولت إلى ظاهرة وافدة وجديدة. وهنا تحديدا مفارقة هذا النقاش العمومي على الرغم من طبيعته شبه الرسمية، حيث يكرّس بدوره، في نهاية المطاف، الصورة النمطية السلبية عن الآخر "الشرقي"، حتى لو كان مواطنا ألمانيا، فقط لأنه ذو خلفية عربية أو مسلمة التي يبدو أنها صارت وحدها كفيلة بإلصاق تهمة معاداة السامية بصاحبها، لا سيما إن أبدى موقفا منحازا أخلاقيا قبل كل شيء للقضية الفلسطينية.
ومن المؤسف حقا أن تطالب أحزاب ألمانية وازنة (غير يمينية) بترحيل هؤلاء الوافدين الجدد الذين قد تثبت "معاداتهم السامية". وهنا يحق التساؤل عن كيفية إثبات هذه التهمة؛ فهل ستكون بناءً على تصرفات فردية منعزلة؟ ويحق التساؤل أيضا: هل يمكن أيضا ترحيل المواطنين
دلالات
زهير سوكاح
أستاذ وباحث مغربي في ألمانيا، الدكتوراه في الأدب الألماني من جامعة دوسلدورف.
زهير سوكاح
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2017