04 نوفمبر 2024
عن تصاعد العنف الاجتماعي في تونس
ما ينقله الإعلام التونسي، ويجد صداه في الصحافة العربية، وحتى العالمية، من أعمال عنف تصل حتى القتل اليومي، أمر مرعب بكل المقاييس، ويعطي انطباعا سيئا على بلادٍ أنجزت ثورةً، وتعد إحدى ورشات التحديث المتقدم في البلاد العربية. يتسرع بعضهم للحكم بأن ذلك كله ناجم عن الثورة، محملين إياها كل مصائب العنف هذا وآثاره الرهيبة، فهي التي، حسب اعتقادهم، فتحت أبواب مارد العنف الأهوج هذا.
علينا ونحن نهم بفهم ما جرى ويجري حاليا في تونس، وخصوصا في ما يتعلق بموجات العنف التي تهز الرأي العام، من حين إلى آخر، أن جل الثورات الكبرى والتحولات السياسية المهمة في تاريخ البشرية كانت متبوعةً بأعمال عنف اجتماعية غير مسبوقة، وبموجات انتحار وتفكك صادمة. ولقد انكبَّ علماء عديدون على فهم ما حدث خلال ما سموها التحولات والمنعطفات الكبرى. لذلك انكب دوركهايم على فهم ظاهرة الانتحار، والحال أنه يفترض في الثورات أن تفتح شهية الحياة والحرص عليها. وإذا بها على خلاف ذلك، تبدّد الأمل في الحياة على نحو مأساوي. تصاب المجتمعات في مثل تلك المنعطفات بحالةٍ من التفكك المعياري، وأزمة قيم حادة مشفوعة بفردانية متورّمة، و"تتفيه" الحياة التي تغدو بلا معنى.
لن نهتم لفهم ما يحدث في النسيج الاجتماعي التونسي من عنف سياسي، يسميه المختصون، ولا سيما في العلوم الاجتماعية والسياسية، العنف الاستراتيجي، أي العنف الذي يتبناه الأفراد أو المجموعات (حركات احتجاجية، أحزاب ومنظمات وجمعيات...) لمواجهة الدولة وأجهزتها
الأمنية والعسكرية والمدنية من مؤسسات عمومية وخدمات.. إلخ. لأنه يتغذّى بامتياز من معين أيديولوجي سياسي، ويقف وراءه فاعلون سياسيون، كما أشير سابقا. ولا يعني هذا الاستبعاد أننا نفصل بينهما، بل هما على علاقة ترابط وثيق، فكلما ارتفع منسوب العنف السياسي ارتفع عادة منسوب العنف الاجتماعي، وقد يكون العكس صحيحا، في حين تظل حالة الاستقرار السياسي تحاصر كل أشكال العنف، ليظل متحكما فيه، وبنسب لا تهدد الحياة الاجتماعية.
ينشأ هذا العنف الاجتماعي بشكل عرضي عادة بين أفراد ومجموعات، وقد يكون مبيتا، لتندلع أحداثه في شبكةٍ ملتبسةٍ من ردود الأفعال في شكل مثيرات واستجابات لا تتوقف. وهكذا ينخرط الجميع في ما يسميها الخبراء الدائرة الجهنمية للعنف.
يكتسح عنف الشارع وعنف البيوت وعنف الساحات والأحياء المشهد العام، ولم تسلم منه، في الأيام الأخيرة، حتى أكثر المؤسسات حرمةً، على غرار المدارس والمعاهد والمستشفيات ونقل الإعلام المحلي صورا فظيعة منه، انتهت بإزهاق أرواح، وتدمير ممتلكات، علاوة على مآس ستظل تلاحق طيفا كبيرا من العائلات والأقارب. وقد اندلعت موجة من الإدانات الواسعة لما حدث، وبادرت وزاراتٌ إلى اتخاذ التدابير التي تعتقد أنها ضرورية لإيقاف ذلك، أو على الأقل الحد منه من قبيل رفع الأمر إلى القضاء، وتشديد الحراسة وتكوين الموظفين في مسائل الاستقبال والتحكم في حالات التوترات القصوى، لتفادي التحرج القاتل لدوائر العنف.
تفيد الأرقام المشتتة التي تنشرها بعض الوزارات على مواقعها الإلكترونية الرسمية (وزارة العدل، وزارة الداخلية...) بارتفاع منسوب هذا العنف الاجتماعي، وهو عنفٌ، كما بينا، تحتضنه للأسف، وبشكل مثير، مؤسسة الأسرة وفضاءات الجوار على غرار الأحياء وغيرها، فضلا على مؤسسات التنشئة الاجتماعية، كالمدرسة والمرافق العامة، على غرار المستشفيات وأماكن العمل والإدارات العمومية، وذلك ما عنيناه بتعميم العنف الاجتماعي، وهو عادة ما يندلع إثر مشادات كلامية (عنف رمزي)، لينتهي بعنف مادي، يستهدف الأشخاص أو الممتلكات، غير أن المحير هو هذا الاستهتار العبثي بأرواح البشر، وقتل النفس، فيما يسميه بعضهم العنف المجاني، أو العبثي، إذ تزهق أرواح بشرية، من أجل سبة أو شتيمة وأحيانا أشياء غير ذات معنى، كرفض رد التحية أو إعطاء سيجارة وانتشال هاتف جوال.. إلخ.
ثمة أسباب بنيوية وأخرى سياقية لهذا العنف، ذلك أن التحديث الاجتماعي الذي يجري، وأحيانا
بشكل "عنيف" وسريع لم يواكبه بالشكل المطلوب تحديث قيمي، يتم على قاعدة قداسة الحياة البشرية، وحرمة الذات الإنسانية، سواء استندنا في ذلك إلى مدونة دينية أو مدنية، بل إن الكثير مما يحدث يتم خارج تلك المتون، فضلا على أن تبرير بعض العنف، السياسي منه خصوصا، يتم استنادا إلى مشروعية دينية متوهمة، تجيز القتل، وتجازي عنه أيضا. هناك فقر روحي وقيمي، يترك جموعا غفيرة فريسة أهوائها وغرائزها التي تتوحش، بعيدا عن قيمنا الإنسانية، القادمة من السلوك المدني أو الديني المعتدل. في تلك الفضاءات المفقرة قيميا، والتي تتوزع على فضاءات الإقصاء والتهميش (شباب الأحياء القفيرة وسكانها...) تنتعش محاضن هذا العنف، ولا نعتقد أن المقاربات الأمنية أو القانونية، على الرغم من أهميتها، قادرة وحدها على مكافحة هذا الغول الذي يلتهمنا جميعا.
علينا أن نعيد هندسة قيمنا الجماعية، بما يقدّس الحياة البشرية، ويجعل منها غاية الغايات. التعليم والأسرة والإعلام هما أركان هذه المقاربة الإدماجية التي قد تكون قادرةً على جعل هذا العنف متحكما فيه، أي إنه يحدث بنسب نادرة وغير ذات معنى إحصائيا ودلاليا، ما دام أن حالة صفر عنف تبدو طوبى لا يمكن إدراكها، حاليا على الأقل.
علينا ونحن نهم بفهم ما جرى ويجري حاليا في تونس، وخصوصا في ما يتعلق بموجات العنف التي تهز الرأي العام، من حين إلى آخر، أن جل الثورات الكبرى والتحولات السياسية المهمة في تاريخ البشرية كانت متبوعةً بأعمال عنف اجتماعية غير مسبوقة، وبموجات انتحار وتفكك صادمة. ولقد انكبَّ علماء عديدون على فهم ما حدث خلال ما سموها التحولات والمنعطفات الكبرى. لذلك انكب دوركهايم على فهم ظاهرة الانتحار، والحال أنه يفترض في الثورات أن تفتح شهية الحياة والحرص عليها. وإذا بها على خلاف ذلك، تبدّد الأمل في الحياة على نحو مأساوي. تصاب المجتمعات في مثل تلك المنعطفات بحالةٍ من التفكك المعياري، وأزمة قيم حادة مشفوعة بفردانية متورّمة، و"تتفيه" الحياة التي تغدو بلا معنى.
لن نهتم لفهم ما يحدث في النسيج الاجتماعي التونسي من عنف سياسي، يسميه المختصون، ولا سيما في العلوم الاجتماعية والسياسية، العنف الاستراتيجي، أي العنف الذي يتبناه الأفراد أو المجموعات (حركات احتجاجية، أحزاب ومنظمات وجمعيات...) لمواجهة الدولة وأجهزتها
ينشأ هذا العنف الاجتماعي بشكل عرضي عادة بين أفراد ومجموعات، وقد يكون مبيتا، لتندلع أحداثه في شبكةٍ ملتبسةٍ من ردود الأفعال في شكل مثيرات واستجابات لا تتوقف. وهكذا ينخرط الجميع في ما يسميها الخبراء الدائرة الجهنمية للعنف.
يكتسح عنف الشارع وعنف البيوت وعنف الساحات والأحياء المشهد العام، ولم تسلم منه، في الأيام الأخيرة، حتى أكثر المؤسسات حرمةً، على غرار المدارس والمعاهد والمستشفيات ونقل الإعلام المحلي صورا فظيعة منه، انتهت بإزهاق أرواح، وتدمير ممتلكات، علاوة على مآس ستظل تلاحق طيفا كبيرا من العائلات والأقارب. وقد اندلعت موجة من الإدانات الواسعة لما حدث، وبادرت وزاراتٌ إلى اتخاذ التدابير التي تعتقد أنها ضرورية لإيقاف ذلك، أو على الأقل الحد منه من قبيل رفع الأمر إلى القضاء، وتشديد الحراسة وتكوين الموظفين في مسائل الاستقبال والتحكم في حالات التوترات القصوى، لتفادي التحرج القاتل لدوائر العنف.
تفيد الأرقام المشتتة التي تنشرها بعض الوزارات على مواقعها الإلكترونية الرسمية (وزارة العدل، وزارة الداخلية...) بارتفاع منسوب هذا العنف الاجتماعي، وهو عنفٌ، كما بينا، تحتضنه للأسف، وبشكل مثير، مؤسسة الأسرة وفضاءات الجوار على غرار الأحياء وغيرها، فضلا على مؤسسات التنشئة الاجتماعية، كالمدرسة والمرافق العامة، على غرار المستشفيات وأماكن العمل والإدارات العمومية، وذلك ما عنيناه بتعميم العنف الاجتماعي، وهو عادة ما يندلع إثر مشادات كلامية (عنف رمزي)، لينتهي بعنف مادي، يستهدف الأشخاص أو الممتلكات، غير أن المحير هو هذا الاستهتار العبثي بأرواح البشر، وقتل النفس، فيما يسميه بعضهم العنف المجاني، أو العبثي، إذ تزهق أرواح بشرية، من أجل سبة أو شتيمة وأحيانا أشياء غير ذات معنى، كرفض رد التحية أو إعطاء سيجارة وانتشال هاتف جوال.. إلخ.
ثمة أسباب بنيوية وأخرى سياقية لهذا العنف، ذلك أن التحديث الاجتماعي الذي يجري، وأحيانا
علينا أن نعيد هندسة قيمنا الجماعية، بما يقدّس الحياة البشرية، ويجعل منها غاية الغايات. التعليم والأسرة والإعلام هما أركان هذه المقاربة الإدماجية التي قد تكون قادرةً على جعل هذا العنف متحكما فيه، أي إنه يحدث بنسب نادرة وغير ذات معنى إحصائيا ودلاليا، ما دام أن حالة صفر عنف تبدو طوبى لا يمكن إدراكها، حاليا على الأقل.