عن تزييف تزكيات انتخابية في تونس
ربما هناك ثغرات تشريعية في القانون الانتخابي، إذ لم يُنص في باب العقوبات على مثل هذه التجاوزات. ولكن هل بالإمكان أن يتنصل المترشحون من تلك الجرائم، بدعوى الفراغ والغموض الذي يلف النص فيما يتعلق بصلاحيات الهيئة في مثل تجاوزات كهذه؟
ربما انحصر اهتمام نواب المجلس التأسيسي، وهم يناقشون مشروع النص القانوني المقدم إليهم، آنذاك، ومعهم جزء كبير من الرأي العام، على حصر الجرائم الانتخابية في معنى الغش الانتخابي، أي تزوير النتائج الانتخابية بشكل أساسي، وما يحوم حول التلاعب بها، حتى لا تعكس تلك النتائج حقيقة ما أدلى به الناخبون في صناديق الاقتراع. عانى التونسيون من مثل تلك الجرائم الانتخابية، والتي لا يمكن أن نختزلها فيما يصيب صناديق الاقتراع من تزييف وغش، ذلك أن لتزييف إرادة الناخبين عدة أوجه، فمنع تجسيدها من خلال قوانين جائرة من أكبر الجرائم الانتخابية. كان القانون والقضاء زمن بن علي متواطئين في ذلك، ونتذكر التعديلات الدستورية العديدة والقوانين المنقحة والأحكام الصادرة عن القضاء التي خانت الإرادة الشعبية، وشكلت تلاعباً فظاً بها، حينما حرمها من مسالك التعبير عن ذاتها، بشكل يتطابق مع حقيقتها. في التفاصيل يسكن الشيطان، وإغفال تلك التفاصيل في القانون الانتخابي الحالي، عمداً أو سهواً، يتسلل منه الشيطان الانتخابي الذي تزور له نفسه ما لا ترضاه تلك الإرادة.
ومع بعض الاستثناءات، فإن جل من تعلقت بهم، إلى الآن، تلك الشبهات هم من أبناء النظام القديم، فجلهم كانوا من وزراء بن علي، وآخرون مخضرمون. وهناك شكوك متزايدة، عبرت عنها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، مفادها أن تزييف التزكيات تلك لم يكن عملاً عشوائياً من صنيع طيش مناصرين متحمسين، بل هو، على خلاف ذلك، عمل منهجي منظم، سهرت عليه شبكات محترفة، راسخة قدمها في ماكينة النظام القديم، وتمتح من ثقافته. كانت حملة التزكيات فرصة لتشغيل تلك الماكينة و"تزييتها"، حتى يزول ما علق بها من صدأ السنين الخوالي. الإمضاءات المكررة، وأسماء مزكين في القبور منذ سنوات، أمارات تدل على بصمات النظام القديم. ولكن يظل الأخطر من ذلك كله استعمال قواعد البيانات لمؤسسات عمومية تتطابق فيها الأسماء مع رقم بطاقات التعريف الوطنية لصناعة تلك التزكيات، وهي، في اعتقادنا، جريمة مضاعفة تكشف عن حجم التواطؤ الذي تبديه الدولة العميقة مع ماكينة النظام القديم. المجازفة باستعمال المعطيات الشخصية وإفشاء السر المهني وسرقة الوثائق وتزييفها لا يتعلق، كما ذكرنا، باجتهادات فردية خاطئة، لم تقدر خطورة الفعلة، بل يتعلق بتحفز المنظومة القديمة للانقضاض على ما يُحقق، وبصعوبة، في سبيل ترسيخ التحول الديمقراطي. ما أقدمت عليه تلك الشبكات، وفق النعت الذي استعملته هيئة الانتخابات، يعكس، في اعتقادنا، حجم الهشاشة وقابلية الانتكاس في مناخٍ، يكيفه إعلام ومال يشدهما حنين جارف إلى الماضي المشين.
ما علينا استنتاجه من هذه التجاوزات الخطيرة أنه لا يمكن حفظ سلامة المسار الانتخابي، بالتركيز على سلامة النتائج فحسب، أي حصر الاهتمام في المحطة النهائية من هذا المسلك الوعر. ولكن علينا أن نوسع من ذلك من أجل إيجاد بيئة سليمة للانتخابات، حتى تعكس حقيقة الإرادة الشعبية. سيظل الأهم من ذلك كله إحداث نقلة نوعية في سلوك الناس، تؤثّم وتستهجن مثل هذه الأعمال، فتعدها سلوكات مشينة، وذلك ما لم نقف عليه في مثل هذه الحالة.
ربما ستكون ردود الأفعال مختلفة، لو تم تزييف نتائج الانتخابات، ولكن تنشئة الناس، والشباب خصوصاً، على قيم جديدة تؤثّم ما يراه بعض منا صغائر انتخابية، سيحدث ردود أفعال مغايرة، لما نشهده حالياً. ولم يصدر، إلى الآن، عن المترشحين للرئاسة الذين تورط أنصارهم في تزييف التزكيات، ما يجعلنا نبرئهم من شبهة التواطؤ، وما يدفعنا إلى مزيد من الشك في نواياهم، ولو صدر ذلك منهم لخفضوا من مخاوفنا، من دون أن يبددوها، ولكن وهم يصمتون عما اقترفه أنصارهم وشبكات الجريمة الانتخابية يؤكدون أن من شبّ على شيء شاب عليه، خصوصاً أن "المعلم"، كما يحلو لبعض حاشيته تسميته قد أوفى الوصية.
هل يشكل هؤلاء أنوية لشبكات الجريمة الانتخابية؟ وهل ما صدر عنهم ليس إلا بروفة هي تمرين خفيف عما يمكن أن يقترفوه لاحقاً؟ لا ندري حقيقة ما ستؤول إليه الأمور في غضون الأسابيع المقبلة، ولكن كل الاحتمالات واردة، في ظل مخاوف من إجراء الانتخابات أصلاً، وربما القبول بنتائجها، إذا لم تستجب لأهواء مركب ماكينة النظام القديم ورغباته أساساً.
يطالب نشطاء حقوقيون وجمعيات مختصة في مراقبة المسار الانتخابي، باستبعاد هؤلاء المرشحين من السباق الانتخابي أصلاً، وحرمانهم من الترشح. ولكن لا تستطيع الهيئة الاستجابة لمثل هذه المطالب، لخلو النص القانوني من تمتيعها بمثل هذه الصلاحيات، ولكن ربما سيقول القضاء كلمته، وفق التشريعات الجزائية عموماً. وبغض النظر عن الأحكام التي قد تصدر في حق هؤلاء، فإن العقاب الشديد مستوجب، من وجهة نظر أخلاقية، إذ كيف نقبل رئيساً يحكمنا وقد بسمل بالغش؟
الطريق نحو قصر قرطاج وعرة وشاقة، ولكن نعتقد أن أرانب السباق التي يسمّنها النظام القديم ما زالت مكبلة بثقافة الغش التي تبخس الناس حقهم في أن يكون لهم صوت حر.