عن برج البراجنة

14 نوفمبر 2015

من موقع التفجيرين الانتحاريين في برج البراجنة (12 نوفمبر/2015/الأناضول)

+ الخط -
لم يكن التفجيران الانتحاريان في الضاحية الجنوبية من بيروت عادييْن، على الأقل بالنسبة لي، وأنا الذي ترعرعت في تلك المنطقة النائية من العاصمة اللبنانية، وتحديداً في برج البراجنة، ولا يزال لي أهل وأصدقاء كثر، يحيون في أزقتها العشوائية المتداخلة مثل متاهة. تلقي خبر الانفجار لم يكن عملاً صحافياً هذه المرة بالنسبة لي، ونحن الذين اعتدنا على مئات التفجيرات والقذائف والبراميل اليومية المتنقلة من عاصمة عربية إلى أخرى، حتى بتنا نرى في الموتى مجرد أرقام ترمى في حبر المطابع.
هذه المرة كان الأمر مختلفاً. اختلاف لا بد أن يجعل المرء يعيد النظر في كل خبر عن موت يمرّ بين يديه. فهذا الموت، وإن كان افتراضياً بالنسبة إلى من يكتب تفاصيله، فإن له إسقاطات واقعية كثيرة، لكل من يعيشه لوعة وفقداً وحزناً. كل هذه الأمور جالت في رأسي، وأنا أتلقى خبر التفجيرين في برج البراجنة. لم يعد مجرد عمل إعلامي عادي، ذكر اسم المنطقة جعل عشرات الشخصيات تقفز إلى ذهني، وفي مقدمتهم أهلي. تتقصى أكثر عن مكان التفجير، لتدرك أنه لا يبعد أكثر من 500 متر عن منزل العائلة، تسارع إلى الاطمئنان وفي ذهنك مئات الهواجس القاتلة "ماذا لو كان شقيقي مارّاً في طريقه إلى المنزل؟ ماذا لو كان أبي متوجهاً لشراء بعض الحاجيات من ذلك السوق الشعبي، أو شقيقتي؟" أفكار سوداء تجول في الخاطر، لا تسكتها إلا اتصالات اطمئنان أنهم بخير.
لكن، إذا كان الأهل القريبون نجوا من هذا التفجير الغادر، ماذا عن الآخرين، الأقرباء الأبعد والأتراب والأصدقاء والجيران الذين تعرف أن كثيرين منهم قد يكونوا في ذلك الوقت موجودين في هذه المنطقة التي تحفظها عن ظهر قلب. كيف لا وفيها كانت الطفولة والشباب، وفي هذا الشارع بالذات كانت لك سهرات مع أصدقاء سابقين، فرقتك عنهم الحياة والاختلافات والخلافات. عند إحدى النواصي، كان هناك "أبو علي"، بائع السندويش الذي كان يجمع أهل المنطقة كل ليلة، وكان أول من ابتكر الكافيتيريا المتنقلة في سيارة، أو الإكسبرسو، وهي التي انتشرت لاحقاً في ذلك الشارع المزدحم ليل نهار. أذكر أن هذا الازدحام كان مدعاة للتندر، فالشارع، وإن كان مخصصاً لمرور السيارات، فإن كثافة السائرين على أقدامهم لم تكن تدع مجالاً لعبور المركبات على أنواعها، فحتى الدراجة النارية تجد صعوبة في اختراق الحشود البشرية الكثيرة.
من معرفة طبيعة المنطقة، كان من المنطقي ترقب هذا العدد الكبير من الضحايا الذين بالتأكيد ليسوا أرقاماً. ترقب الصور داعياً ألا يصادفك وجه تعرفه، مع أنك لا بد تعرف كثيرين منهم، وأنت من يزور المنطقة أسبوعياً في أثناء وجودك في لبنان. تقرأ أسماء القتلى، وتتمنى ألا يمر عليك اسم مألوف. لكن، بمجرد قراءة ألقاب العائلات تتذكر أشخاصاً تعرفهم في المنطقة يحملون الألقاب نفسها.
العائلات هناك متنوعة، تستفزك التغطية الإعلامية - السياسية التي تتحدث عن منطقة تعرفها، بأنها ذات لون مذهبي معين، أو حتى انتماء سياسي معين. هي صورة نمطية لمن ينظر إلى الضاحية الجنوبية في مرحلتها الأولى، قبل أن تتوسع وتستوعب كل من لم يعد قادراً على تحمل عبء العيش في قلب العاصمة، إضافة إلى احتضانها مخيماً للاجئين الفلسطينيين، لا يضم بمجمله فلسطينيين أيضاً، بل أصبح صورة مصغرة عن برج البراجنة التي كانت بالأساس وقبل النزوح إليها من المناطق كافة، ساحة عيش لأطياف متعددة من المجتمع اللبناني.
تنهي متابعة الخبر بإيهام نفسك أن الجميع بخير. لكن، هل حقاً الجميع بخير؟ بالتأكيد لا. لا أحد بخير، فالرعب الذي عاشه ويعيشه الجميع سيستمر طويلاً، ويجعل مجرد السير في الشارع مخاطرة غير محسوبة العواقب.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".