عن الهوية والآخر في الخليج

26 مايو 2017

(صفوان داحول)

+ الخط -
قبل سبعة أشهر من اليوم، لم أكن أفهم لماذا تُصر زميلة سكناي في أميركا، والصديقة المُقربة لي لاحقاً، ذات الأصول العربية، على أنها أميركية الهوية أيضاً.
أظن أنني، في ذلك الوقت، وأزعم أن عديدين مثلي، كنت أرى العرب الأميركيين، أولئك الذين يتحدثون العربية ويصطبغون بهويتها، كتلاً منفصلة عن الجماعة السياسية المحلية هوياتياً ووجدانياً. والآن، بعد فترة وجيزة من الاختلاط بكثيرين من العرب الأميركيين، أعلم تماماً أن تصوري كان عارياً من الصحة.
في سياق مشابه، أذكر تماماً كيف شعرت بالارتباك، حين أخبرتني سمر، وهي زميلة دراسة مقربة في الثانوية، وبعد سنوات من معرفتي بها، أنها "غير سعودية".
كلانا ولدنا في المدينة ذاتها، نتحدث اللهجة نفسها، تأكل القرصان والكبسة (أطباق سعودية) في منزلها، مثل أي أسرة سعودية أخرى، وفيما عدا تبايني الشديد معها في ميولها الكروية تجاه الفريق المحلي الذي تذود عنه بلا هوادة، وفي شعرها الأشقر، لم تبد سمر مختلفة كثيراً عن الفتيات الأخريات اللاتي كبرن معهن. كيف لي أن أعيد تعريف سمر في عقلي، وأجرَدها من هويتها التي تعتقد هي نفسها أنها لا تمتلكها؟ وإن كنتُ سأجرّدها من هذه الهوية، فأي هويةٍ تلك التي سأعطيها لسمر، بحيث يبدو كل هذا التقاطع في تفاعلاتنا الاجتماعية منطقياً؟
تتصدر هذه التصورات والأسئلة المشهد اليوم، مع تصاعد الحركات اليمينية القومية في أوروبا، المناهضة للمهاجرين، والتي تتهمهم بتمييع الثقافة الأوروبية. إضافة إلى تصدّر الخطاب الشعبوي لرئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، والذي يؤكد على هوية أميركية بمقاييس العرق الأوروبي الأبيض.
تحولات ليست بعيدة عما يحدث اليوم في بلداننا الشرق أوسطية التي تعيش حراكا مناهضا لحراك العام 2011، يؤكد على الهوية القطرية، وحفظ مصالحها على حساب التعدّدية
السياسية والثقافية. تجمع هذه التحركات سمات بارزة، تقوم، في مجملها، على تعزيز شكل من أشكال الهوية الحصرية التي يتم تصويرها في الخطاب اليميني على أن لها أسسا ثابتة وفعَالة، وكوجه آخر للعملة، لابد من أجل ترسيخ هذه الهوية من صُنع "آخر"، يقع لزاماً خارج حدود هذه الهوية الحصرية. وغالباً ما يتم انتزاع استحقاق الآخر الأخلاقي والسياسي، وفي بعض الحالات، شيطنته في حال كانت هناك حاجة إلى وضع "بعبع" خارج حدود الهوية. وبناء على هذا التعريف، ربما تصبح مفردة "هدم" الآخر، عوضاً عن "صنع" أكثر مواءمة للسياق.
ما يدفعني إلى تناول هذا الموضوع، تصاعد أصوات خليجية تتقاطع كثيراً مع اليمين الأوروبي في النبرة، لكننا لا نستطيع فهمها من خلال تبريرات الأخير، لأنها مُوجهة ضد أبناء الوطن العربي الكبير من المقيمين في بلداننا، أو حتى ممن نالوا جنسياتها الرسمية. أولئك الذين نشترك معهم على الأقل باللغة والثقافة، وعلى مستوى أكثر جدلاً بالدين والمشروع السياسي.
المثال الأبرز حالياً نائبة خليجية استفزت، كما تقول، من تصريح وزير عربي تحدّث عن وجود ألفي وظيفة لمواطنيه في الدولة الخليجية التي تُمثلَها النائبة. ولذلك تطالب بسن قوانين تخص "الوافدين" في بلدها لتلزمهم بدفع الرسوم على كل الخدمات المُقدمة، بدءاً بالرعاية الصحية وانتهاء بقطع الشارع، ودافع خطابها الاستفزازي حفظ "كرامة المواطن"، من خلال إيقاف هدر المال العام وصناعة مورد اقتصادي من خلال المقيمين، وكأنها تفترض هنا أن على الدولة أن تُنحي أي اهتمام بكرامة المقيم في المقابل، أو جعلها في مرتبة أقل من مرتبة كرامة المواطن.
لكنها حين تُجابه في حاجة قطاع خدماتي كامل للمقيمين في ظل عدم وجود قوى عاملة خليجية قادرة على سد الفراغ، فإنها تؤيد إبقاء هذه الفئات التي وفقاً لهذا المنطق لا تتعارض مع الفرص الاقتصادية المرغوبة لدى المواطنين. من دون أن تجد تعارضاً في أنها ترغب بالإبقاء على مقيمين في مهن خدماتية متواضعة الدخل، لأن ابن البلد لا يرغب بامتهانها ، ورغبتها في إلزامهم بدفع رسوم، حتى على قطع الشارع في الوقت ذاته.
وعلى الرغم من أنه أمر مُبرّر أن يُعنى الشخص بمصالح الجماعة بالتعريف السياسي، فيذود
عن أمنهم، ويسعى إلى رخائهم الإقتصادي، لكن الخطاب الذي يُؤسس هنا إقصائي، يرمز إلى هوية ضيقة، ومنظور أضيق، يدفعون بنا إلى غض الطرف عن أي فرص حقيقية للرخاء الاقتصادي، في حال أعدنا تعريف مفاهيم الهوية، واستقبلنا من هم يعرّفون أنفسهم أفراداً ضمن جماعاتنا. تأثير المقيمين على مؤشرات الرفاه الاقتصادي، على سبيل المثال، متعدّدة، ولا يمكن أن تقتصر على معدلات الإنفاق الحكومي عليهم. فهم من ناحية أخرى، كما يحدث في أميركا، يساعدون في تنشيط الإبداع الاقتصادي، خصوصا في مجال التكنولوجيا، وتوفير يد عاملة متعدّدة المهارات، وزيادة الاختراعات.
لا أجادل هنا من الناحية الاقتصادية فحسب، بل من ناحية ثقافية كذلك. فمسألة الهوية لا ينبغي الاتكال عليها كثيرا للتمييز بين السعوديين وغيرهم. فعلى سبيل المثال، قد يتقاطع الحجازي في هويته مع الهوية الأفريقية أكثر من النجدية، وهذا قد يُرجح حدوثه مع جنوبيين يتقاطعون في تقاليدهم ولهجاتهم كثيرا مع الهوية اليمنية. وعلى الرغم من أن العراق لا يعتبر جزءا من مجلس التعاون لدول الخليح العربية، إلا أن أي شكل ممكن للهوية الخليجية سيتشابه كثيرا مع الجو الثقافي للعراقيين. فإذا ما أخذنا بالاعتبار تاريخ المنطقة الكبرى مع الاستعمار، وتبعات سايكس –بيكو، أدركنا أن الهوية مفهوم تشكَل واُعيد تشكيله مراراً، وأن التحدّي الحقيقي يكمن في أن لا نجعلها أداة لمشروع كراهية، لن يساهم إلا في جعل أي مشروع لإنعاش المنطقة أقرب للمستحيل.
731996D6-C0A1-4A0D-A648-B0B60C235AA5
731996D6-C0A1-4A0D-A648-B0B60C235AA5
نورة العوهلي

طالبة دراسات عليا سعودية

نورة العوهلي