عن القطاع الزراعي الفلسطيني المكبّل

03 ديسمبر 2018

فلسطينية دمر الاحتلال زيتون حقلها في الخليل (6/1/2006/فرانس برس)

+ الخط -
ينظر الشعب الفلسطيني إلى الزراعة في فلسطين على أنها العمود الفقري للمجتمع والاقتصاد الفلسطيني، وإلى المزارع الفلسطيني أنه المَعقل الأخير للمقاومة، فالزراعة تُعد عمومًا من ضروب المقاومة، ومن تجليات الصمود، حيث يعكف المزارعون على المحافظة على الأرض واستصلاحها وبناء الاعتماد على الذات، وإنشاء اقتصاد مقاوم، وتحدّي واقع الاتكالية المفروض، والاحتواء الاقتصادي اللا متكافئ. وهكذا، الزراعة في جوهرها عملٌ سياسي، يهدف إلى تحدّي الاضطهاد، ونيل الحرية والانعتاق. ولكن هذا العمود الفقري، في واقع الحال، وبعيدًا عن الوعي والسرد الشعبي، تشوّه وتضرر كثيرًا، إنْ لم نقل أصابه الشلل، بسبب تواصل الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي وسياساته، والسياسات المدمرة التي تنتهجها السلطة الفلسطينية. وبعبارة أخرى، بات القطاع الزراعي الفلسطيني، والمزارعون الفلسطينيون، مكبّلين بقيود الاستعمار الإسرائيلي والنيوليبرالية الفلسطينية كذلك.
تستمر إسرائيل قوةً استعمارية، في سياسة مصادرة الأراضي وضمّها، وتوسيع المستوطنات والمستعمرات، وتعزيز عنف المستوطنين، وسرقة الأراضي والموارد الطبيعية، وفرض سياسات الإغلاق والحصار، والإمعان في تجزئة الفلسطينيين، والتحكّم بالتجارة والصادرات والواردات، وتشكل هذه بمجملها "منظومة السيطرة" الموجهة نحو استعمار الفلسطينيين. ومنذ 1967، اقتلعت السلطات الإسرائيلية 2.5 مليون شجرة فاكهة، وثمانمائة ألف شجرة زيتون، أي ما يعادل 33 ضعف مساحة متنزه سنترال بارك في نيويورك.

ومن الجهة الأخرى، ساهمت سياسات السلطة الفلسطينية ونموذج "التنمية" الموجّه من المانحين في تدهور القطاع الزراعي، حيث تقلُّ مخصصات هذا القطاع في ميزانية السلطة الفلسطينية السنوية عن 1%. ويستأثر هذا القطاع الزراعي المحاصر بأقل من 1% من حجم المساعدات الدولية المقدمة للسلطة الفلسطينية. يساهم إهمال القطاع الزراعي الفلسطيني على هذا النحو الرهيب في تراجع التنمية على نطاق واسع، ويمحق قدرته التحويلية تدريجيًا، بينما يساهم في بسط الهيمنة والسيطرة الإسرائيلية على الأرض. وعلى الرغم من أن تداعيات هذه العملية، ذات البناء السياسي، تتجاوز حدود الزراعة، إلا أن هذا القطاع هو الأوضح إفصاحًا عن سماتها المختلفة. وحين تتبنّى السلطة الفلسطينية مقولة "أفراد أثرياء، أُمة فقيرة" فإنها تردّد ممارسات الاحتلال الإسرائيلي من دون وعي.
وثمة مؤشّرات كمية أخرى، توضح الصورة القاتمة لهذا القطاع، فلا تتجاوز مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني 3%. وقد انخفض عدد العاملين في القطاع الزراعي كنسبة من إجمالي اليد العاملة انخفاضًا ملحوظًا، وبلغ متوسط الناتج للهكتار في فلسطين نصف متوسط ناتج الهكتار في الأردن و43% فقط من متوسط ناتج الهكتار في إسرائيل، على الرغم من التطابق شبه التام في البيئة الطبيعية بين هذه المناطق الثلاث. وبلغ استهلاك المياه لأغراض الزراعة لدى الفلسطينيين عُشر الاستهلاك الإسرائيلي، بحسب تقديرات "أونكتاد" (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية). وهناك أسرة واحدة فقط من كل أربع أُسر في الضفة الغربية وغزة آمنة غذائيًا، وهناك 70% من المجتمعات القاطنة في مجملها، أو معظمها، في المنطقة (ج)، غير متصلة بشبكة المياه، كما بات 95% تقريبًا من مياه غزة الجوفية غير صالحة للشرب بدون معالجة.
وعلاوة على ذلك، يُقدِّر البنك الدولي أن الدخل الكامن من المخرجات المباشرة الإضافية في بعض القطاعات (سيما الزراعة واستغلال أملاح البحر الميت) يصل إلى 2.2 مليار دولار سنويًا (يعادل 23% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني). وأفادت هذه التقديرات المغايرة للواقع بأن استفادة القطاع الزراعي ستبلغ 704 ملايين دولار، أي ما يعادل 7% من الناتج المحلي الإجمالي. وتقدِّر "أونكتاد" أن القطاع الزراعي الفلسطيني يعمل، في الوقت الحالي، بربع طاقته الإنتاجية.

غير أن هذا الضرر، بالنسبة لإسرائيل، إيجابي، إذ يعود على اقتصادها واحتلالها ومستوطنيها بأرباح مباشرة وفوائد جلية، فالزراعة بالنسبة للحكومة الإسرائيلية سلاحٌ هجومي، يمكن توظيفه لحرمان الفلسطينيين حقوقهم، والعودة، في المقابل، بالأرباح والمزايا على المواطنين اليهود في إسرائيل. ومِصداق ذلك أن كَمَّا كبيرًا من الصادرات الزراعية التي يزرع المستوطنون الإسرائيليون كثيرا منها في الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة، يُصدَّر إلى أوروبا.
التشوّهات وأوجه العوز والقصور الأساسية التي يتسم بها قطاع الزراعة الفلسطيني هي حصيلة عقودٍ من الاستعمار الإسرائيلي للأرض الفلسطينية. وأُحاجج هنا بأن عملية الاستعمار هذه قامت على غزو الأرض الفلسطينية، وسعت إلى الحد من قدرات التنمية الفلسطينية المستقلة، وتقييدها سياسيًا واقتصاديًا. وليس تراجع التنمية نتيجة مؤسفة أو عَرَضية، وإنما نتيجة استراتيجية استعمارية مقصودة وهادفة.
وبدلاً من تحدّي القوة الاستعمارية، والوقوف في وجهها، كثيرًا ما عملت السلطة الفلسطينية واسطة لإعادة إنتاج الاستعمار. وهكذا، فإن القطاع الزراعي الفلسطيني حبيسٌ بين الاستعمار الإسرائيلي والنيوليبرالية الفلسطينية، وهذا قيدٌ وبيل مزدوج يُحبط التنمية في هذا القطاع حاضرًا ومستقبلًا. ومن أجل الصمود في هذه الظروف، لا بد من تبنّي المقاومة الزراعية، فزراعة فلسطين تحصد الحرية.
F5CB8409-A449-4448-AD7A-98B3389AADB7
علاء الترتير

كاتب فلسطيني، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف. عمل باحثاً ومدرّساً في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والتي حصل منها على الدكتوراه.