في كتابه "بحبر خفيّ"، يروي الكاتب والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، نقلاً عن "أخلاق الوزيرَين" لأبي حيّان التوحيدي، حادثةً طريفة بطلُها الصاحب ابن عبّاد الذي تكبّد مشقّة التنقّل إلى قريةٍ بعيدة تُدعى النوبهار، فقط ليُضمّن رسالته هذه العبارة: "كتابي هذا من النوبهار، في منتصف النهار".
لم يكُن لابن عبّاد غرضٌ في القرية سوى غرضِ السجع، فسار مسافةً بعيدةً بحثاً عن جملةٍ مسجوعة وصادقة في آن. وهذا الحرص، الذي يبدو مرَضياً بمقاييس اليوم، يُذكّر بمقولة فلوبير وهو يتحدّث عن الكتابة واللغة: "بالنسبة إليّ، أجمل امرأةٍ في العالم لا تُساوي فاصلةً موضوعة في محلّها".
بإمكان الكلمة، والفاصلة أيضاً، أن تُثير مشكلةً إذا استُخدمت في موضعها الخاطئ. في الجزائر، وليومَين كاملَين، عجّت مواقع التواصل الاجتماعي بهذه الأحرف الثلاثة: "زحف". مئاتٌ من التعليقات الجادّة والساخرة تناولتها في صيغة المصدر والفعل واسم الفاعل، بعد ورودها في معرض حديث قناةٍ تلفزيونية محلّية عن إقبال مواطنين من الصحراء في جنوب البلاد إلى المدن الساحلية في شمالها.
هل ثمّة مبالَغة في ردود الفعل الغاضبة تلك؟ لعلّ الإجابة تتطلّب عودةً إلى استخدامات الكلمة التي تعني حركةَ نوعٍ محدّد من الحيوانات، وقد تُستخدَم، على نحوٍ مجازي، في حالاتٍ أُخرى؛ كسَيْر الإنسان، لا على رجلَيه، إنما على بطنه أو ركبتيه، وحركة الجيش، إذ "يمضي في ثقلٍ لكثرته"، كما نقرأ في المعاجم.
على أن العبارة اكتسبت مدلولَها السلبي من استعمالاتها في الفترة الاشتراكية؛ إذ ارتبطَت بظاهرتَين: "الزحف الرملي"، أو التصحّر، الذي دفَع الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، عام 1971، إلى إطلاق أحد أكبر المشاريع في عهده: "السدّ الأخضر"، وهو شريطٌ غابي ممتدّ من شرق الجزائر إلى غربها، بهدف صدّ حركة الرمال من الجنوب إلى الشمال.
أمّا الثانية، فتتعلّق بظاهرةٍ ديمغرافيةٍ نالت نصيباً وافراً من الدراسات السوسيولوجية في الجامعة الجزائرية وخارجها، اصطُلح على تسميتها "الزحف الريفي"، أو "النزوح الريفي" (لا تقلّ التسمية الثانية فجاجةً عن الأولى)، ويُقصَد بها موجات انتقال السكّان من الأرياف إلى المدن، في سنوات الاستقلال الأولى، سعياً منهم إلى تحسين ظروفهم المعيشية. وقد شهدت البلاد موجةً ثانية منها خلال الأزمة الأمنية التي عاشتها في التسعينيات وعُرفت بـ "العشرية السوداء".
من أبرز نتائج الظاهرة تخلّي المجتمع عن طابعه الزراعي من جهة، وترييف المدن من جهة أُخرى، فتحوّلت إلى قرىً كبيرة، لا على صعيد العمران فحسب، بل على صعيد العقليات والسلوكات الاجتماعية كذلك. والنتيجة الثانية هي ما جعل من لفظة "الزحف" بمثابة شتيمة.
ما يهمّ، هنا، هو اللغة الإعلامية في الصحافة الجزائرية، والتي يبدو أنها لا تُلقي بالاً إلى المحاذير اللغوية. فبالإضافة إلى الأخطاء الإملائية والمعجمية والصرفية والنحوية التي باتت قاعدةً اليوم، يتجلّى ذلك في الخلط الفادح بين فصيح المفردات وعاميّها، والذي يُنتِج جُملاً خاطئة المعنى رغم صحّتها من الناحية النحوية، وأيضاً في عدم التمييز بين اللفظ ومحموله الدلالي.
يتّخذ الأمر أبعاداً بالغة الحساسية حين يتعلّق بألفاظٍ اكتسبت مع الوقت مدلولاتٍ كريهة؛ كما هو بالنسبة إلى كلمة "الغاشي" التي يُفهَم من لفظها، في العامية الجزائرية، الأعدادَ الكبيرة من الناس المجتمعة في مكان واحدٍ، ويعني مدلُولها "الرعاع".
ينطبق الأمر أيضاً على عبارة "الزحف" التي رأى كثيرون في استخدامها تأكيداً على رغبة "المركز" في احتكار كلّ شيء (بما فيه البحر)، ونظرتِه الدونية إلى "الهامش" الكبير الذي تُسمّيه نشرات أحول الطقس "بقيّةَ أنحاء الوطن".