08 نوفمبر 2024
عن الفضاء السّياسي في المغرب
المواطنة تعني البناء الحرّ والإرادي، لتنظيم اجتماعي، يوفّق ما بين وحدة القانون وتنوّع المصالح، واحترام الحقوق الأساسية، حسب آلان تورين. وهي في الفهم السياسي عندنا لا تخرج عن المعنى الإجرائي للمواطنة: مجموعة من الحقوق الشّكلية التي تمنح الفرد صفة مواطنٍ في بلد ما، وتفرض عليه واجباتٍ مقابل ذلك، بكل بساطة. هي إذن نظرة قاصرة الاستيعاب، وقصيرة المدى؛ تدلّ على أفقٍ سياسي ضيق الأبعاد، يغلب فيه منطق الصّراع على علاقات مكوّنات النسق السياسي، ويضطّر، في أي مقاربةٍ للوضع، أن تعود إلى منشئه، ومحدّداته.
فقد بدأ الصراع السياسي في المغرب، بعد الاستقلال، مع تغير مجموعة من الأشياء، في رأي المفكر المغربي محمد سبيلا، أوّلها أن الإحساس الوطني الذي كان شعورًا جماعيًا تعبويًا ضد المستعمر أخذ يتحوّل تدريجيًا، نتيجة انطلاق عملية الصراع حول السلطة، منذ الثواني الأولى للاستقلال، بحيث أدى هذا الصراع السياسي الشّرس والدموي حول السلطة والخيرات والرموز إلى نزع القدسية عن أشياء كثيرة.
وإلى تكون صورة جديدة للوطن في هذه الفترة، مجالا للصّراع، أو ملعبا تجري فيه مباريات حامية الوطيس بين مجموعة من الفرقاء، وهذا ما مسّ الإحساس العام، وأضفى عليه بعدًا شكليًا من جهة، وطبقيًا أو تراتبيًا من جهة ثانية. وبلغت أزمة مفهوم الوطن ذروتها ابتداء من الثمانينيات، أي مع استفحال الأزمات الاقتصادية، وحدوث الاختلال المزمن بين التطور الإنتاجي والتطور السكاني، فعدم قدرة المجتمع على إدماج الأجيال الشابة الجديدة في الحياة الاجتماعية شكل إحدى أكبر الأزمات في المجتمع المغربي، مثلًا.
وهكذا دخلت مقولة الوطن والمواطنة حلبة الصّراع الاجتماعي. وهنا، يُرجع سبيلا الصراع
السياسي إلى فترة ما قبل الاستقلال، المشحونة بالصراع مع المستعمر وضد الظلم. لذا ففي نظره الصراع السياسي الذي اندلع، مع مطلع الاستقلال، كان من البداية محملًا بالعنف "التّصفيات الداخلية في جيش التحرير والمقاومة، الصراع بين النقابات والأحزاب والانفصالات، والإقصاءات والانقلابات والتمرّدات.. الذي تنفجر بعض مظاهره بين الفينة والأخرى"؛ مع إقراره بوجود خطواتٍ نحو عقلنة الصراع السياسي، وإقامة نوعٍ من التوازن بين مصالح مختلف الطبقات والفئات. هذا عن الصّراع، في حد ذاته، فماذا عن آلياته التي استعملها الفرقاء ضد بعضهم بعضا؟ هي آليات عديدة، قد لا يتسع المجال لذكرها كلها، خصوصا وأنها تطورت واختلفت حسب المراحل التاريخية، واشتداد الصراع أو فتوره. منها:
التعبئة الإيديولوجية للأحزاب: لجأت الأحزاب إليها لمواجهة الآخر، خصوصا أحزابا حافظت على التوجه الإيديولوجي القائمة على أساسه (اليسار، الإسلام السياسي)؛ باستغلال أزمات آنية من أجل الانضمام إلى مطالب اجتماعية أو اقتصادية، تمنحها موقع قوة للتفاوض مع السلطة، بالاستدلال بالمرجعية الإيديولوجية التي تدعو إلى مجتمعاتٍ بلا فروقاتٍ اجتماعية، الإسلام، الاشتراكية خصوصا.
زرع الانقسامات داخل الأحزاب: إحدى الوسائل المنتشرة بقوّة في المغرب، فمنذ الاستقلال والانقسامات الحزبية تتآكل بنياتها بقوة. وكانت المؤسسة الملكية في عهد الحسن الثاني سيدة مثل هذه الانقسامات التي لا تنعدم عوامل داخلية خلفها، خصوصا مع سيطرة تيارات وقيادات تحتكر مقاليد الأمور، ولا تفسح المجال أمام قياداتٍ شابّة طموحة، مع ضعف الديمقراطية الداخلية في الأحزاب المغربية.
إفراغ المؤسّسات من ثقلها: سياسة لجأ إليها الراحل الحسن الثاني، بعدما كانت المؤسّسات الوسيطة من أحزاب وجمعيات سياسية معارضة منافسًا قويًا، على السلطة وفي الشعبية. وكان تقزيم الأحزاب أحد الاستراتيجيات البعيدة المدى التي أدت إلى إفراغ الأحزاب من معناها، وتحولها إلى هياكل مفرغة من الأدوار التي تقوم عليها الأحزاب، وهي التأطير، والسعي إلى السلطة، فوصل عدد المنخرطين الشباب إلى أقل 1% في الأحزاب، فيما لم تعد السلطة محل تنافس الأحزاب، بل خدمة السلطة.
كيف إذن انعكس الصراع على كل القطاعات في المغرب؟ لن تذهب هذه المقالة بعيدًا في قياس تأثير الصراع السياسي في المغرب، على كل مجالات التنمية. فأشهُر البلوكاج (الانسداد) الحكومي التي واجهت محاولات أمين عام حزب العدالة والتنمية السابق، ورئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، تشكيل حكومة ثانية، وإلى حين تكليف سعد الدين العثماني، أثّرت بشكل مهول على الأداء الاقتصادي؛ فمع تأخر المصادقة على قانون المالية، جمدت معظم القطاعات في انتظاره؛ وتضرّرت المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وعائدات الاستثمارات.
على الصعيد السياسي، كان لسنوات الصّراع السياسي الضيق تأثير جذري، بأن أصبحت
السياسة شأنًا نخبويًا، وانصرف الفرد العادي عنه، وكانت النتيجة تراجع الانخراط الحزبي ونسب التصويت بشكل كبير. وأدت هذه المؤثرات إلى انغلاق النسق السياسي أمام النخب الجديدة، وأصبح من الصّعب خلخلة الوضع الراهن، على الرغم من المحاولات العديدة من داخل النسق أو خارجه، مع تكون نوع من التكتل والتضامن السياسي في النسق، جعل من المحال إحداث تغييرات عليه، والدليل أنه على الرغم من دستور 2011، والحراك الشعبي، عادت الأمور إلى عادتها القديمة، ولم تذهب حليمة إلى أي مكان، بل استعادت قواها بشكل أكبر، وأكثر ثقةً في نفسها أمام الحشود التي تفتقد النفس الطويل. وهكذا أدى الصّراع والإقصاء إلى الاغتراب السياسي الذي يشير إلى "الشعور الدائم نسبيًا لدى المواطن المغربي بالانفصال عن النظام السياسي السائد، أو رفضه، وينقسم إلى فئتين رئيسيتين: العجز السياسي والسخط السياسي. في المثال الأول، يُفرض الاغتراب على الفرد من بيئته، وفي الحالة الثانية يختاره الفرد طوعًا.
معيار الحكم على الاغتراب السياسي هو في مدى تمثيل الإرادة الشعبية في الانتخابات أو مشاركة الفرد في صنع القرارات. وخلاصة ذلك، حسب الباحث المغربي يحى اليحياوي، أن معادلة التّعايش السياسي والمجتمعي وقع فيها اختلال جوهري، وفجوة عميقة ومعقدة، تمثلت في الانهيار التدريجي لـ"وسط الهرم" السياسي، وهو ما جعل الدولة في ورطة المواجهة مع الشارع، وهو أيضًا ما يزيد من الفجوة بين الشعب والدولة، والتي نتجت أساسًا من جرَّاء غياب التوافق بالوتيرة نفسها أو أكثر، الوتيرة التي طبعت مرحلة ما بعد الربيع العربي، والتي احتُرمت فيها المنهجية الديمقراطية، وهي اختيار الأمين العام للحزب المتصدر للانتخابات رئيسًا للحكومة. ويؤثر هذا التراجع المتزايد عما تم تحقيقه على الاستقرار الذي تحقق، حيث نواجه، على مدى قصير، احتمالا كبيرا لاحتقان اجتماعي، ناتج عن تغليب منطق الصراع، ما يؤثر على الأداء الاقتصادي والسياسي للدولة.
فقد بدأ الصراع السياسي في المغرب، بعد الاستقلال، مع تغير مجموعة من الأشياء، في رأي المفكر المغربي محمد سبيلا، أوّلها أن الإحساس الوطني الذي كان شعورًا جماعيًا تعبويًا ضد المستعمر أخذ يتحوّل تدريجيًا، نتيجة انطلاق عملية الصراع حول السلطة، منذ الثواني الأولى للاستقلال، بحيث أدى هذا الصراع السياسي الشّرس والدموي حول السلطة والخيرات والرموز إلى نزع القدسية عن أشياء كثيرة.
وإلى تكون صورة جديدة للوطن في هذه الفترة، مجالا للصّراع، أو ملعبا تجري فيه مباريات حامية الوطيس بين مجموعة من الفرقاء، وهذا ما مسّ الإحساس العام، وأضفى عليه بعدًا شكليًا من جهة، وطبقيًا أو تراتبيًا من جهة ثانية. وبلغت أزمة مفهوم الوطن ذروتها ابتداء من الثمانينيات، أي مع استفحال الأزمات الاقتصادية، وحدوث الاختلال المزمن بين التطور الإنتاجي والتطور السكاني، فعدم قدرة المجتمع على إدماج الأجيال الشابة الجديدة في الحياة الاجتماعية شكل إحدى أكبر الأزمات في المجتمع المغربي، مثلًا.
وهكذا دخلت مقولة الوطن والمواطنة حلبة الصّراع الاجتماعي. وهنا، يُرجع سبيلا الصراع
التعبئة الإيديولوجية للأحزاب: لجأت الأحزاب إليها لمواجهة الآخر، خصوصا أحزابا حافظت على التوجه الإيديولوجي القائمة على أساسه (اليسار، الإسلام السياسي)؛ باستغلال أزمات آنية من أجل الانضمام إلى مطالب اجتماعية أو اقتصادية، تمنحها موقع قوة للتفاوض مع السلطة، بالاستدلال بالمرجعية الإيديولوجية التي تدعو إلى مجتمعاتٍ بلا فروقاتٍ اجتماعية، الإسلام، الاشتراكية خصوصا.
زرع الانقسامات داخل الأحزاب: إحدى الوسائل المنتشرة بقوّة في المغرب، فمنذ الاستقلال والانقسامات الحزبية تتآكل بنياتها بقوة. وكانت المؤسسة الملكية في عهد الحسن الثاني سيدة مثل هذه الانقسامات التي لا تنعدم عوامل داخلية خلفها، خصوصا مع سيطرة تيارات وقيادات تحتكر مقاليد الأمور، ولا تفسح المجال أمام قياداتٍ شابّة طموحة، مع ضعف الديمقراطية الداخلية في الأحزاب المغربية.
إفراغ المؤسّسات من ثقلها: سياسة لجأ إليها الراحل الحسن الثاني، بعدما كانت المؤسّسات الوسيطة من أحزاب وجمعيات سياسية معارضة منافسًا قويًا، على السلطة وفي الشعبية. وكان تقزيم الأحزاب أحد الاستراتيجيات البعيدة المدى التي أدت إلى إفراغ الأحزاب من معناها، وتحولها إلى هياكل مفرغة من الأدوار التي تقوم عليها الأحزاب، وهي التأطير، والسعي إلى السلطة، فوصل عدد المنخرطين الشباب إلى أقل 1% في الأحزاب، فيما لم تعد السلطة محل تنافس الأحزاب، بل خدمة السلطة.
كيف إذن انعكس الصراع على كل القطاعات في المغرب؟ لن تذهب هذه المقالة بعيدًا في قياس تأثير الصراع السياسي في المغرب، على كل مجالات التنمية. فأشهُر البلوكاج (الانسداد) الحكومي التي واجهت محاولات أمين عام حزب العدالة والتنمية السابق، ورئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، تشكيل حكومة ثانية، وإلى حين تكليف سعد الدين العثماني، أثّرت بشكل مهول على الأداء الاقتصادي؛ فمع تأخر المصادقة على قانون المالية، جمدت معظم القطاعات في انتظاره؛ وتضرّرت المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وعائدات الاستثمارات.
على الصعيد السياسي، كان لسنوات الصّراع السياسي الضيق تأثير جذري، بأن أصبحت
معيار الحكم على الاغتراب السياسي هو في مدى تمثيل الإرادة الشعبية في الانتخابات أو مشاركة الفرد في صنع القرارات. وخلاصة ذلك، حسب الباحث المغربي يحى اليحياوي، أن معادلة التّعايش السياسي والمجتمعي وقع فيها اختلال جوهري، وفجوة عميقة ومعقدة، تمثلت في الانهيار التدريجي لـ"وسط الهرم" السياسي، وهو ما جعل الدولة في ورطة المواجهة مع الشارع، وهو أيضًا ما يزيد من الفجوة بين الشعب والدولة، والتي نتجت أساسًا من جرَّاء غياب التوافق بالوتيرة نفسها أو أكثر، الوتيرة التي طبعت مرحلة ما بعد الربيع العربي، والتي احتُرمت فيها المنهجية الديمقراطية، وهي اختيار الأمين العام للحزب المتصدر للانتخابات رئيسًا للحكومة. ويؤثر هذا التراجع المتزايد عما تم تحقيقه على الاستقرار الذي تحقق، حيث نواجه، على مدى قصير، احتمالا كبيرا لاحتقان اجتماعي، ناتج عن تغليب منطق الصراع، ما يؤثر على الأداء الاقتصادي والسياسي للدولة.
مقالات أخرى
01 نوفمبر 2024
25 أكتوبر 2024
18 أكتوبر 2024