من يتتبع صفحات السوريين على صفحات التواصل الاجتماعي، سيلاحظ موجات من الرّدح، والسخط، والاستهجان، والكلّ مندفع كالسيل، دون أن يشذّ عن موقف الجماعة التي ينتمي إليها ميليمتراً واحداً.
سيلحظ المتتبع أيضاً، أنّنا ما زلنا نقع في فخّ التقديس، وإضفاء هالة من النورانية، على بشرٍ مثلنا، امتيازهم الوحيد أنّ أصواتهم مسموعة أكثر من أصواتنا.
كانت بداية الثورة، هي بداية عهد السوريين بهذه الوسائل، وبداية عهدهم بحرية التعبير، والذي لم يكن متاحاً في البلد، فكان سبيل الخلاص الوحيد هو أن ينقل كل شخص نشاطه إلى ذلك المنبر الصغير الذي أنشأه لنفسه، ليعتلي المنصة ويصرّح بكل ما يود التصريح به، دونما خوف من الرقيب، والذي ابتكر الغالبية وسيلة للاحتيال عليه - حسب قناعاتهم - من خلال ظاهرة الأسماء الحركية.
نجحت هذه الوسائل في اختراق الجدار الأمني الإسمنتي الحصين الذي كان يفرضه الرقيب على الناس، وأتاحت لهم المناخ المناسب الذي يطرحون فيه أفكارهم ورؤاهم، على مسؤوليتهم الخاصة طبعاً، فالمدوّنون لم يسلموا من بطش الأنظمة التي تخشى أن تتسرّب الحرية إلى الرئات التي عششت فيها رائحة العفونة، ابتداء من الديوان في الفروع الأمنية الذي يقتضي القانون أن تحصل عليها حتى لو كنت تفكر في افتتاح بسطة جوارب، أو رفع الجدار الذي على شرفتك كيلا يقع ابنك، مروراً بغرف تحقيقها التي تستضيفك لتسألك عن أتفه التفاصيل في حياتك، وليس انتهاء بزنازين الموت المطلية بدماء من سبقوك.
فالمعتقلة السورية طل الملوحي والمدون المصري خالد سعيد لم يكونا استثناء في دول "المحل العربي" التي ما زالت تأبى أن يجتاحها الربيع، هذان الاسمان اللذان ينسحب مصيرهما على عشرات الألوف من الشبان العرب الذين كانت تهمتهم الوحيدة هي "كلمتهم الباحثة عن وطن يؤويها، بعيداً عن قيظ الطغيان".
على الضفة الأخرى، نجحت وسائل الإعلام هذه في تصنيع أبطال خلّبيين، كان "اللايك" وعدد الأصدقاء الفلكي هو مقياس نجوميّتهم، فجاءت هذه النجومية الزائفة وبالاً على الذائقة العامة، حيث إنّ هؤلاء الأشخاص باتوا بين عشية وضحاها مطالبين بتوجيه الرأي العام، والخوض في قضايا لا علم لهم بها البتة، حتى إن بعضهم ممن لا يجيد كتابة منشور دون أخطاء، وجد نفسه وقد أصبح مطالباً بأن يدلي بدلوه في القضايا السياسية الشائكة، أو صناعة الخبر في غرفة الأخبار على إحدى الوسائل الإعلامية، على قاعدة "اللايك الذهبي" والـ 5000 صديق فيسبوكي.
هذا المانديلا الذي صنعه خيال جمعي تواق إلى البحث عن المنبر الحرّ، لتفريغ كلّ ما يعتلج في النفس من مشاعر الغضب والسخط، فوجد في كلّ من تجرأ على المجاهرة برأيه الرافض للأنظمة القمعية المتحكمة بالقرار، في دول تعجّ سجونها بالمعتقلين السياسيين، ويغيب عن هذه السجون كبار اللصوص ممن نهبوا ثروات هذه البلدان؛ وجد فيهم ذلك الـ"غودو" الذي لطالما انتظره.
هذه الشعوب المقموعة، المحرومة من ممارسة أيّ حراك سياسي، أو اختيار ممثلين عنها في الدوائر السياسية، صنعت من هذا المدوّن الجريء الذي كسر سطوة السلطة، ومرّغ جبهة الأنظمة القمعية بالوحل، صنعت منه "مانديلا" يصلح لكل شيء، فهو يصلح مناضلاً سياسياً، وناطقاً إعلامياً، ومرجعاً في الطب والهندسة، إلخ، ما أضرّ بهذا الحراك، وبهؤلاء المواطنين الذين وجدوا أنفسهم في غير مكانهم.
هؤلاء الناس أنفسهم، ممن أمطروا هذا المناضل بالإعجابات على كلّ ما يكتب يوماً ما، هم من بدأ بمحاسبته وجلده بعد أن أصبحوا ذوي خبرة في هذا الميدان، وباتت لهم وجهات نظرهم الخاصة نتيجة حالة الانفتاح على مفاهيم حرية الرأي والتعبير، وبعد أن تلاشت تلك الهالة من القدسية التي أضفوها على هذه الشخصيات، بحكم التواصل الدائم، فاكتشفوا أن الفنان ليس بالضرورة أن يحمل فكر الشخصية التي يجسدها، وأنّ من خرج في مظاهرة لا يصلح دائماً أن يكون رئيساً لتكتل سياسي، وأنّ من يحصل على 1000 لايك على منشوره الفيسبوكي ليس قادراً بالضرورة على كتابة مقال.
اكتشفوا أن "المانديلا العربي" كان صنيعة مخيلاتهم التواقة إلى إيجاد رمز، بعد أن حُجِب الآخر عنها سنوات طويلة، وأن الوصول إليه ما زال يحتاج إلى المزيد من الحنكة السياسية، بعيداً عن ميادين الفيسبوك وتويتر.