عن السياسة الأميركيّة تجاه سورية
لم تشهد أي إدارة أميركية تخبّطاً وتشوّشاً مثل الذي تشهده إدارة باراك أوباما، اليوم، حيال الملف السوري، حيث الارتباك والضعف وغياب الرؤية. وقد تعاملت الإدارة المذكورة مع الأزمة السورية منذ بدايتها بحذر ورويّة كثيرين، معتمدة على مبدأين: العمل الجماعي مع المنظومة الدولية وإعطائها دوراً دولياً أكبر، وممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية من بعيد. لكن، مع تعقّد الأزمة، بدأت الإدارة الأميركية تتبع سلوكاً سياسياً متشابكاً، يعكس هذه الطبيعة المعقدة للأزمة، ويعكس، أيضاً، مخاوف الولايات المتحدة ذاتها وحلفائها في المنطقة، فضلاً عن مخاوف النظام السوري التي أصبحت حاضرة في السلوك السياسي الأميركي.
وقد دفع التغيير المستمر في السلوك الأميركي وغياب رؤية محددة شخصيات مرموقة إلى توجيه نقد لاذع لسياسة أوباما، وهذا غير مألوف في تاريخ الولايات المتحدة: المبعوثان الخاصان لأوباما للأزمة السورية، فريد هوف وروبرت فورد، وسبقهما إلى ذلك وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، ووزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلنتون، وأخيراً وزير الدفاع المستقيل تشاك هاغل. وقد مر الموقف الأميركي بأربع تحولات خلال أعوام الأزمة السورية:
ارتباك في التعامل مع الأحداث المتسارعة مع مراقبتها أولاً، ثم دعم المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، في مقابل فرض عقوبات اقتصادية على النظام ثانياً، ثم تراجع الدعم العسكري للمعارضة المسلحة، وتغيير التحالفات الميدانية مع الاستمرار في استنزاف النظام وحلفائه ثالثاً. وأخيراً، الميل إلى إمكانية التفاهم مع حلفاء النظام في محاربة الإرهاب، وتهيئة الأرضية لإيجاد حل سياسي يلائم الواقع السوري.
والصيغة الأخيرة هي التي يحاول أوباما تكريسها في المرحلة المتبقية من ولايته، إذ تعمد إدارته إلى تعريف الأزمة السورية على أنها صراع بين متساوين، أي حرب أهلية، وهذا ما يفسّر توقف واشنطن عن دعم اللجنة الخاصة بالتحقيق في جرائم الحرب في سورية. وبموجب هذه الصيغة، لن يكون مصير بشار الأسد شرطاً مسبقاً في أي عملية تفاوض، لكن هذا لا يعني، في المقابل، بقاء الأسد في السلطة، ضمن أية تسوية. وتقوم المقاربة الأميركية على الفصل الحاد بين الميدان والسياسة، بين نتائج المعارك العسكرية ونتائج مفاوضات السلام، فهدف استمرار المعارك يتجاوز مسألة بقاء الأسد، أو خروجه من السلطة. والنتائج العسكرية لا يمكن أن تحدد النتائج السياسية، لأن نتائج العمليات العسكرية تتجاوز مسألة بقاء النظام أو عدمه، وفق رؤية أوباما. وبالتالي، لا يمكن أن تختزل الأزمة السورية وتداعياتها الإقليمية والدولية بانتصار عسكري لهذا الجانب أو ذاك.
المهم للولايات المتحدة، في هذه المرحلة، بقاء النظام على حاله، من أجل بقاء الدولة وعدم صوملة سورية، وإقناع الأطراف المعارضة بجعل مصير الأسد نتاجاً للعملية السياسية وليس مقدمة لها، وهذه هي المهمة السياسية الموكلة إلى روسيا خفية، من المجتمع الدولي، بالسماح لموسكو بتتبّع مسار دبلوماسي للأزمة، إثر علاقاتها مع النظام السوري، ومحاولتها تشكيل تكتل سياسي جديد، وليس مصادفة أن تعلن واشنطن، قبل نحو شهرين، عدم اعترافها بالائتلاف الوطني، ممثلاً وحيداً للشعب السوري.
كان أوباما صريحاً للغاية، حين قال في قمة العشرين في أستراليا، الشهر الماضي، إن واشنطن ترغب بحل سياسي في سورية، يرضي جميع الأطراف الداخلية والخارجية، وسيضطر الشعب السوري للقيام بتفاهمات سياسية مع تركيا وإيران وكذلك الأسد. لكن، تتطلّب هذه المعادلة، أولاً، تغييراً، أو تعديلاً، للواقع الميداني في سورية، ولا سيما محاولة القضاء على داعش، وهي معادلة بدأت ترتسم ملامحها أخيراً على الأرض، بالسماح لقوات إيرانية وحزب الله، وأخرى عراقية، مقاتلة داعش وبعض الفصائل في شمالي سورية من جهة، وبوادر اتفاق أميركي ـ تركي على إقامة منطقة عازلة شمالي سورية من جهة ثانية، على الرغم من إعلان الخارجية الأميركية عدم حسمها خيار المنطقة العازلة.
يقوم جوهر السياسة الأميركية على إيجاد حل للأزمة السورية على الطريقة اليمنية، بعد "تبيئتها" لتتلاءم مع الواقع السوري، وبالتالي، العمل العسكري المتاح هو لمحاربة الإرهاب، وليس لإسقاط النظام السوري، فتكاليف إسقاطه عسكرياً تتجاوز بكثير تكاليف تغييره سياسياً، طالما أن الأزمة السورية لا تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي، وفق تعريف أوباما الأزمات الدولية.