عن السلطة والحرية في لبنان

23 أكتوبر 2018
+ الخط -
في كل مرة عاش لبنان حدثا مهما، أو واجه أزمة حادّة، كان ثالثهما الحرية. الحرية هي متنفس الإنسان وضمانته في ما يفكر، وفي ما يسعى إليه لتحقيق الذات. وهي، في الوقت عينه، شاهد ورقيب وفاضح لما يرتكب! لا أوطان ولا دول ولا انتظام عام ولا تقدم لمجتمعات من دون حرية وحقوق وعدالة.
لبنان والحرية صنوان، قام لبنان على الحرية، ولا يمكنه أن يعيش ويستقيم وطنا ودولة من دون حرية. الحرية هي ضمانة لبنان التعدّدي، والمتنوع سياسيا وطائفيا وثقافيا ومناطقيا وطرائق عيش. لا معنى للبنان من دون حرية ولا وجود له. يصبح بلدا آخر من دول الحاكم الواحد المستبد والقادر على كل شيء، دول الحقيقة الواحدة والرأي الواحد والخطاب الواحد، دول كلوا واشربوا وأطيعوا السلطان، دول اتركوا له أن يقرر عنكم ويفكر عنكم. دول "النظام المرصوص" الحابسة أنفاس الناس ومانعة الهواء والحرية عنهم تملأ الشرق الأوسط والمحيط من حولنا، بدءا من الجيران وليس انتهاء بإيران.
هل هذا ما يريدونه للبنان، وهل هذا ما يخطّط له الحكم العوني "القوي" اليوم؟ لقد حقّق في السنوات العشر الأخيرة أسوأ سجل في مجال الحريات السياسية وحرية التعبير وحقوق الإنسان التي يكفلها الدستور اللبناني. تكاد الاستدعاءات لناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي تكون يومية، ولا يوفّر القضاء مقدمي البرامج التلفزيونية. تتراوح الدعاوى بين تحقير الحاكم والقدح والذم بالوزير والحاشية. شبق السلطة يتفشى ويتفاقم. نبدو كأننا أمام حالة من كان محروما من السلطة بمعناها النفعي، ويريد اليوم أن يعوّض ما فاته سطوةً وغنما وغنيمة! والأبشع أن ما
تمارسه هذه السلطة لا يتعدّى كونه نزوة شخصية، ونوعا من تعويض عن إمساك غيرها (وهو حليفها) بالسلطة الفعلية خارج القوانين والمؤسسات الشرعية للدولة. ويبدو أن هذا الحليف، أي حزب الله بات قادرا على كل شيء، إلى درجة أنه صار ينزعج من أي شيء، فقد انبرى أحد قيادييه ليعلن بكل صراحةٍ، عبر قناة تلفزيونية، أنه من طلب من أحد الفنادق في بيروت عدم استضافة تجمع سياسي ثقافي معارض، ينشط تحت اسم "سيدة الجبل"، كان قد حجزه لعقد لقائه السنوي فيه، وعلى جدول أعماله مناقشة "رفع الوصاية الإيرانية عن لبنان، والحفاظ على الدستور وحماية العيش المشترك". وكذلك فعل فندق آخر في الأسبوع الذي تلاه، بعد أن كان قد وافق على استضافة اللقاء! وذلك كله من دون أن تستنكر السلطات الرسمية المعنية ما جرى أو تحرك ساكنا، أو أن تتحرّك الأجهزة المختصة، لتأمين حرية عقد اللقاء.
ألهذه الدرجة يخيف عنوان المطالبة برفع الوصاية عن لبنان؟ وهل إن السوبر قوي والمدجج بالسلاح غير قادر على تحمل من يعارض بالكلمة والرأي الحر سياسته ودوره ودور "وليٍه الفقيه"؟ فكما عارض اللبنانيون، في السابق، الوصاية السورية يعارضون اليوم أي وصاية أجنبية على لبنان من أي جهة أتت، علما أن أرباب الحكم يجب أن يشعروا بأنهم أكثر قوة اليوم وأكثر سطوةً، لأن الوصاية الإيرانية تحظى، على ما يبدو، بصمت من كان يعارضها ويعارض الوصاية السورية، وخاض معركة إخراج الجيش السوري المحتل عام 2005، وكانت يومها معركة الحرية بامتياز! فهم اليوم يتساكنون تحت سقف التسوية - الصفقة التي حملت ميشال عون إلى القصر الجمهوري وسعد الحريري إلى رئاسة الحكومة.
الوصاية والحرية لا يستقيمان، سواء كانت الوصاية خارجية أم داخلية. وإذا حصل، فإن مصير الوصاية هو السقوط. وقد عرف لبنان أكثر من وصايةٍ على شكل احتلال لم يستمر ولم يدم. من التنظيمات الفلسطينية إلى الجيش السوري إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي. كلها انهارت وانكفأت بفعل إرادة اللبناني التواق للحرية إلى أي فريق أو طائفة أو منطقة انتمى. وإذا كان الخروج هو مصير الوصي الخارجي أو المحتل، فإن من سعى إلى الهيمنة في الداخل على شركائه في الوطن لم يكن مصيره أفضل، فهناك من استقوى بالوجود الفلسطيني المسلح، وآخر استقوى بإسرائيل، وثالث بالجيش السوري لقلب المعادلات الداخلية كي تستتب الغلبة له، غير أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل ولو بعد حين. وهناك اليوم طرفٌ رابع يحاول فرض الهيمنة الإيرانية والاستقواء بها على باقي مكونات الاجتماع اللبناني. ولبنان لا يمكن أن تتفرد بحكمه فئةٌ أو طرف أو حزبٌ أو طائفة بعينها.
يعشق اللبنانيون الحرية (بشكلها الفوضوي أيضا)، ونشأوا عليها، ويكرهون الاستبداد والقمع والفرض. لا نريد العودة إلى الوراء كثيرا، إلى زمن الحكم العثماني وتعليق المشانق، ولا إلى زمن الانتداب الفرنسي، فالشهداء والشواهد كثيرة. وقد تجلى هذا الأمر بشكل خاص في
التسعينيات إلى غاية 2005 مع بدء صعود التململ والتمرّد على حكم العسكر والمخابرات السورية، والذي أدّى إلى انتفاضة شعبية مشهوده على أثر اغتيال رفيق الحريري. وكرّت سبحة شهداء الحرية من صحافيين وكتاب ونواب وسياسيين وأصحاب رأي ورجال أمن، من سمير قصير إلى جورج حاوي، ومن جبران تويني إلى بيار الجميل، ومن وليد عيدو إلى وسام عيد ووسام الحسن ومحمد شطح الذي حذّر، في آخر تغريدة له صبيحة يوم اغتياله في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2013، من أن "حزب الله يهول ويضغط، ليصل إلى ما كان النظام السوري قد فرضه 15 عاما، أي تخلي الدولة له عن دورها وقرارها السيادي في الأمن والسياسة الخارجية". أي الانصياع لسياسة الملالي في إيران.
رجال أحرار سقطوا من أجل الحرية. حرية الكلمة، وحرية التعبير، وحرية العمل السياسي وحرية الاختلاف. والحرية عماد الديمقراطية التي تقوم على الأكثرية والأقلية. والأقلية هي التي تعارض لكي تستقيم الديمقراطية. الحرية إذا هي الحق في المعارضة، معارضة الحكومات وسياساتها. وإذا لم يكن هناك من معارضةٍ، فلا بد من إيجادها، وذلك حفاظا على الحرية، وإلا يصبح الحكم من لون واحد أحاديا قمعيا واستبداديا. وفي هذا المجال، حدث في غضون الحرب اللبنانية، وفيما القتال مستفحل بين مليشيات متصارعة، صدر مرسوم اشتراعي رقمه 104 يمنع حرية التظاهر، فقامت القيامة ضد المرسوم إلى أن تم إلغاؤه أو تعليق العمل به.
منع لقاء "سيدة الجبل" من عقد اللقاء، وهو تجمع يمثل أقلية سياسية نخبوية، وضلع من أضلع فريق 14 آذار السابق، يثبت أنهم، وعلى الرغم من نفوذ السلطة ووهج السلاح، لا يتحمّلون كلاما مختلفا في مكان مغلق داخل قاعة!
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.