عن الحزن الانتقائي وفضائل الكراهية وباقي صينية الرُقاق!

03 سبتمبر 2018
+ الخط -
ـ راقب كثيراً من المحيطين بك من هواة الجعجعة والتخوين، ستجدهم ينسون آباء وأمهات وأطفال وأهالي شهداء الجيش والشرطة، فور انتهاء فترة الحداد الرسمي ثم يتذكرونهم فجأة عند رفع أسعار البنزين والكهرباء.

ـ كتب صديقي على حسابه بالفيس بوك بالأمس: "ونجِّنا من الشرير"، فهممت أن أكتب تعليقاً يقول: للأسف يا صديقي تعدينا هذه المرحلة، نحن الآن في مرحلة (ونجِّنا ممن لم نعرف بعد أنه شرير). لكنني تذكرت كم الأصدقاء الأشرار المحتملين المشتركين بيننا، فأرسلت له تعليقي في رسالة خاصة، وأنا أدعو الله أن ينجينا منه إذا كان شريراً محتملاً، وأحسبه دعا الله بالمثل.

ـ بمناسبة الأصدقاء والصداقات، إذا كنت قد تجاوزت الثلاثين من عمرك، لعلك لاحظت أننا نقضي الثلاثين سنة الأولى من عمرنا في اكتساب أصدقاء جدد وتوسيع شبكة علاقاتنا، لكننا لا نبدأ في الاستفادة بكل هذه الصداقات، إلا حين نبدأ في الثلاثين سنة التالية في خسارة أصدقائنا واحداً تلو الآخر، لينتهي ما يتبقى من العمر بأقل حمولة ممكنة من الأصدقاء، وهي التي كان يجب أن نكتفي بها منذ البداية، لولا أن حكمة الله اقتضت أن لا تتحقق المعرفة إلا بالتجربة.

ـ لا أعتقد أن الفرق الأبرز بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية أنه حيوان ناطق، فأصوات الحيوانات لغات لا نعرفها، وهي تفهمها جيداً وتحقق لها أهداف اللغة في التواصل، ولست محتاجاً لإثبات ذلك إلى الاستعانة بدراسات خبير في علوم الحيوان، أو باكتشافات طالب ثانوي من آخر فيصل يجيد التخاطب مع الهررة، أعتقد أن ما يميز الإنسان أنه حيوان كاره، باقي الكائنات يمكن أن تقتل دون الشعور بالكراهية، تقتل لكي تعيش، أما الإنسان فهو يكره حتى لو لم يمارس القتل، وأحياناً يجد الكراهية ممتعة أكثر من القتل، وربما كان الفرق في درجات الأفضلية بين الناس فيما يخص الكراهية، أن منهم من يكره لكي يتمكن من مواصلة العيش، ومنهم من يعيش لكي يكره فقط، بالطبع لن تجد أحداً يعترف بأنه يستمتع بالكراهية، مع أنه لا أحد منا يعيش بدون الكراهية، ولولا الكراهية ما عرفنا كبشر قيمة الحب، لكن الكراهية للأسف سيئة السمعة، برغم أن الكوارث التي ارتكبت باسم الحب كانت أفدح وألعن، ولأن الحب قادر على تجنيد محامين أشطر وأحسن سمعة، لا تجد الكراهية محامياً بارعاً يفكر في شرح موقفها أو أهميتها، لأن الكل سيكرهون منه ذلك، وللأسف لا أحد يحب أن يكرهه الآخرون، حتى لو كان متأكداً أنه يستحق الكراهية.

ـ كل يوم تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار منشورة في مواقع كذابة وصفحات مفبركة، ومع ذلك لا يمل الناس من الإستشهاد بأخبارها المضروبة، مما يثبت أن تعب المرحوم بافلوف في نظرية الإرتباط الشرطي ضاع هباءاً منثوراً، وهو ما يشكل فرصة للباحثين المعاصرين لاستنتاج نظرية جديدة تنصف الكلاب وتضرّنا.

ـ الشخص الذي لا نعرف هويته لكننا نحبه، والذي بادر بإضافة نتيجة المباراة على شاشة التلفزيون طيلة بث المباراة، بالتأكيد لم يكن يحب مثلي ومثلك أن يسأله أحد كل دقيقتين: "كام كام يا كابتن؟".

ـ كان نجيب محفوظ حذراً وحريصاً في استخدام ألفاظه، ومع ذلك أظنه لو كان حياً هذه الأيام لأعاد كتابة عبارته الشهيرة هكذا "ما أوسخ أن ينصحنا الضباط وأقاربهم بالفقر".

ـ مع أن هناك مثقفين وممثلين وكتاب سينما ومسرح ومخرجين ومذيعين يقومون بنفس مضمون تلك الوظيفة، لكنهم يقومون به فرادى حتى وإن تشابه ما يفعلونه ويقولونه، يقومون به أحياناً بتوجيهات مباشرة وأحياناً باقتناع يسبق التوجيهات أو لا يرتبط بها، أحياناً بالإجبار وأحياناً طواعية، بعضهم يحصل على الملايين مقابل ما يقوم به، وبعضهم يرضى بالفتات وبعضهم لا يحصل حتى عليه، وربما لذلك وحده لا يضمونهم في فرقة واحدة ترتدي زياً موحداً، مثلما يفعلون مع فرقة الموسيقى العسكرية.

ـ في العادة، أكثر بوستات الفيس بوك انحطاطاً وتخلفاً هي التي تبدأ أو تنتهي بعبارة "انشر على أوسع نطاق عشان تصحّي العقول المغيّبة".

ـ لو استمرت أحوال العالم هكذا سيتغير كل شيء في عاداتنا وتقاليدنا، ولن نندهش لو أصبح المعتاد أن نبكي بعد حدوث الولادة حزناً على المولود، ونزغرد بعد الوفاة فرحة بنجاة المتوفي من الغلاء والحر والنكد والديون وضحكات الحكام السمجة وتبريرات معرصيهم وغباء معارضيهم.

ـ في مرحلة ما لا تطول كثيراً ينشغل العقل الإنساني بسؤال "أيهما جاء أولاً: البيضة أم الفرخة؟"، ثم ينضج وينشغل بأسئلة أهم وأجدى مثل: "الصدر ولّا الوِرك؟.. مشوية ولّا بانيه.. مسلوق ولّا عيون.. تحب معاهم بسطرمة؟".

ـ بعد الموت ينتقم جسد الإنسان منه بطريقته الخاصة، حيث يستمر نمو الشعر والأظافر، تحدياً للإنسان وتذكيراً له بأنه لم يعد لديه سلطة على شيء، حتى على ما كان يعتقد أنه أتفه ما لديه: شعره وأظافره.

ـ الناس صنفان: صنف عرف الأفوكادو أو ذاقه، وصنف يعتقد أنه فيلم لعادل إمام تنطقه بشكل خاطئ. وفي النهاية فوق كل ذي علم عليم.

ـ الحياة هي المسافة الزمنية التي تقطعها بين مرحلة الذهاب إلى أي حفلة من أي نوع بدون السؤال عن أي تفاصيل تتعلق بها، ومرحلة الذهاب إلى الحفلة التي تسأل عن كل معازيمها الفعليين والمحتملين، قبل أن تنزل من على الكنبة.

ـ لا يقدر قيمة الحياة من لا يستطيع تحمل مسئولية أصغر الكائنات وأسهلها رعاية، ولذلك لا يجب أن تثق أبداً في طبيب يضع في عيادته نباتات صناعية، أو أعداداً من مجلة (أكتوبر).

ـ يتحدثون كثيراً عن مميزات اللسان وأفضاله على الإنسان، ولا يذكرون أن من أهمها وأنبلها، أنه يعيش إلى جوار الأسنان طول الوقت، ومع ذلك لا يضطرك إلى دفع تكاليف حشو الأعصاب وزرع الأسنان.

ـ كل التفاصيل ستمضي مهما بدت في وقتها مهمة، وليس صحيحاً أن الانشغال بالتفاصيل هو جوهر الحياة، وإلا فقل لي مثلاً هل يمكن أن تجد مطلقاً أو مطلقة يتذكر عدد الأدوار التي كانت تتكون منها تورتة الزفاف؟

ـ في حياة كل منا وهم كبير اسمه "هابدأ ريجيم بكره، عشان باقي صينية الرقاق دي لو قعدت ممكن تضرب في الجو ده، ولو حطيتها في التلاجة طعمها مش هيبقى حلو بكره، فمعلهش هاخد حتتين كمان وأنزل أتمشى ساعة، اوعي تكوني عملتيها بالسمنة البلدي، يالله مش إشكال هي آخر مرة آكل فيها رُقاق".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.