25 أكتوبر 2024
عن الحرب على الإرهاب في اليمن
منذ سيطرة تنظيم القاعدة على مدينة المكلا اليمنية، في إبريل/ نيسان 2015، بدا واضحاً أنه لم يكن لدى أطراف الصراع اليمنية وحلفائها استراتيجية محدّدة في التعاطي مع النتائج المترتبة على الحرب في اليمن، وفي مقدمة ذلك تمدّد التنظيمات الدينية المتطرفة، بما فيها القاعدة. اتسمت استراتيجية أطراف الصراع حيال تمدّد هذا التنظيم بتجاهل توسّعه على الأرض، أو توظيفه في سياقات صراعها، ففيما اتخذت قوات التحالف العربي، بقيادة السعودية وحلفائها المحليين، موقفاً لا مبالياً من تمدّد التنظيم وإنكار توسّعه، واعتباره ورقةً سياسيةً يستخدمها علي عبدالله صالح في الحرب، على الرغم من إدراكها انخراط عناصر التنظيم بشكل غير مباشر في حربها ضد مليشيات الحوثي وقوات صالح، خصوصاً في المحافظات الجنوبية، استثمرت مليشيات الحوثي وقوات صالح وجود القاعدة في المناطق الجنوبية لتبرير حروبها.
بين الانتهازية والغباء الذي وسم تعاطي أطراف الحرب في اليمن مع تنظيم القاعدة، كان التنظيم أكثر وضوحاً في علاقته مع أطراف الصراع وإدارة مكاسبه من الحرب، ففي حين نجح في توجيه معركته ضد الحوثي، باعتبارها معركةً دينيةً طائفيةً للدفاع عن السُنة، أجل حربه ضد سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي وقوات التحالف مؤقتاً، لإدراكه أن الحرب في النهاية ستصب في صالحه؛ وعدا عن عمليات الطائرات الأميركية بدون طيار التي استهدفت قياداتٍ في التنظيم، لم يخسر التنظيم في الحرب، بل استفاد من الصراعات الاجتماعية والطائفية التي أوجدها لتدعيم قاعدته الاجتماعية، وفرض سلطته.
مرسخاً وجوده اجتماعياً، نجح تنظيم القاعدة في تجذير وجوده في مدينة المكلا سلطة أمر واقع، وساعدته الموارد الاقتصادية التي حصل عليها من ميناء المكلا في تمويل عملياته القتالية خارج المدينة، واستقطاب أنصار جدد، وإنشاء مراكز تدريب للجهاديين. لم يطرأ تغيير على استراتيجية قوات التحالف حيال تنظيم القاعدة، إلا بعد تمدّد التنظيم في مدينة عدن المحرّرة، وتنفيذه عمليات انتحارية ضد مقرات السلطة الشرعية وقوات التحالف، إلا أن الغارات التي نفذتها قوات التحالف ضد التنظيم بمعية الجيش الموالي لهادي، في 24 إبريل/ نيسان الماضي، والتي أسفرت عن خروج التنظيم من المكلا، لم تكن جزءاً من أولويات التحالف في اليمن، بل جاءت تنفيذاً لمخرجات القمة الخليجية الأميركية في الرياض، واستجابة لرغبة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بأن يكون للسعودية دور واضح في مكافحة الإرهاب الذي توسع بسبب الحرب في اليمن. لذا، فإن تحرير مدينة المكلا من تنظيم القاعدة تم بتنسيق أميركي سعودي، وأولوية أميركية.
سوّق إعلام التحالف العربي والسلطة الشرعية اليمنية روايةً واحدةً عن عملية تحرير مدينة
المكلا، باعتبارها معركةً ناجحةً، ضربت الإرهاب في اليمن، وطهرت المكلا من القاعدة، إلا أن السياقات السياسية والعسكرية لعملية تحرير المكلا وتوقيتها، وكذلك السهولة التي تمّت فيها، تكشف عكس ذلك، فخروج تنظيم القاعدة من مدينة المكلا هو تكرار لسيناريو سقوطها بيد التنظيم قبل عام، مع اختلافاتٍ بسيطةٍ في مضامين المشهد، حيث سلمت المكلا للتنظيم، وفق وساطة قبليةٍ لتجنيب المدينة الدمار، كما قيل حينها؛ فمنذ بدء غارات قوات التحالف على المدينة، نجحت وساطة قبلية، من مشائخ ورجال دين، في إخراج عناصر التنظيم من المدينة، ولا يزال في حوزة التنظيم "منظومة عسكرية متطورة"، تجنب المواجهات المسلحة ضد أفراد الجيش الوطني لحمايتها، كما أن أعداد القتلى في عملية تحرير مدينة المكلا من التنظيم والمدنيين، لم تتجاوز عشرين قتيلاً، على عكس ما ذكرته بعض الوسائل الإعلامية.
يبدو أن التنظيم كان من أكثر الأطراف دهاءً، حيث فضل عدم الدخول في معركةٍ خاسرةٍ بالنسبة له، وفقاً لحساباته الاجتماعية والدينية والعسكرية والاقتصادية المستقبلية، ونجح في إيهام خصومه بتحقيق نصرٍ زائف، منسحبأ من مدينة المكلا بطريقة ناعمة، كتكتيك مدروس للقاعدة، مبرراً الانسحاب بـ"تجنب وقوع خساشر بشرية بين المدنيين"، مقدّماً نموذجاً مسؤولاً يضمن له الحفاظ على قاعدته الاجتماعية، وتنامي شعبيته في المدينة؛ كما أن التنظيم لم ينسحب إلا بعد أن أرسى سلطاتٍ قبلية دينية تمثله في المدينة. كان دخول التنظيم في معركة مفتوحة مع الجيش سيسبب خسارة مخزونه العسكري الضخم الذي غنمه من اللواء 25 ميكا والجيش اليمني، بينما يضمن بانسحابه إنقاذ كامل عتاده العسكري، فضلاً عن الأموال التي في حوزته، وتمكّنه من تجنيد أتباع للتنظيم وتنفيذ عملياته. علاوة على هذه المكاسب، أدرك التنظيم أن عاماً من ولايته في المكلا خسارته قيادات عليا جراء الغارات الأميركية، بينما يمنحه البقاء في الجيوب القبلية المحيطة بمحافظة حضرموت ومدينة شبوة مجالاً حيوياً للانتشار، وتنفيذ عملياته، معتمداً على الكر والفر، ثم الاختباء.
لم يخرج تنظيم القاعدة من المكلا خاسراً، بل خرج أقوى مما كان سابقاً، حيث لم تتعرّض بنية الإرهاب والتطرف التي كرّستها الحرب أكثر من عام في اليمن لأي خلخلةٍ تذكر، ويؤكد الواقع اليومي في اليمن على تجذّر القاعدة الاجتماعية للتنظيمات الجهادية المسلحة وتوسعها، وهي أمنت لتنظيم القاعدة خروجاً آمناً من دون خسائر من مدينة أبين والمكلا ولحج، وهو ما يؤكده استمرار تنفيذ "القاعدة" و"داعش" عمليات انتحارية شبه يومية في مدينة عدن، دُرة المناطق اليمنية المحررة ، ويثبت فشل السعودية في تأمين مدينة عدن، وعدم امتلاكها استراتيجة واضحة في مكافحة الإرهاب في اليمن. وعليه، ليست معركة تحرير مدينة المكلا من "القاعدة" في جوهرها سوى بروباغندا إعلامية جديدة لدول التحالف العربي، حيث اتخذتها الإمارات ذريعة للنكاية بالإخوان المسلمين، ووظفتها السعودية لتقديم نفسها إقليمياً ودولياً دولة تحارب الإرهاب "السني" في اليمن والمنطقة العربية، ونفي كونها سبباً رئيسياً في إنتاجه، وسحب البساط على اتهامات إيران للسعودية بأنها دولة راعية للإرهاب، وكذا كسب السعودية ود الشارع الأميركي، خصوصاً مع تصاعد الحملات الشعبية ضد سياساتها في المنطقة، فالسعودية لا تهدف من حربها على الإرهاب إلا لتحقيق مكاسبها الإعلامية والسياسية.
لمكافحة تغول التطرف الديني وتنامي الإرهاب في المجتمع اليمني، لا بد أولاً من تقويض بيئة التطرف التي أنتجتها الحرب، وقيام دولة يمنية قوية تتمتع بكامل السيادة على أراضيها من دون وصاية إقليمية، وانتهاج سياسةٍ وطنيةٍ تكافح الإرهاب، وتشرع آلياتٍ واضحةً في تجفيف منابعه، وهو ما لا يبدو ممكناً، بالنظر إلى أولويات ومشاريع أطراف الصراع اليمنية الحالية وحلفائهم، ذلك أن هذه الأطراف هي من أنتجت الحرب وبيئة التطرّف، ولا يمكن، بأي حال، الركون إليها، لمحاربة التطرف والإرهاب، لأنها جزء من فكره وأرضيته اللاأخلاقية.
بين الانتهازية والغباء الذي وسم تعاطي أطراف الحرب في اليمن مع تنظيم القاعدة، كان التنظيم أكثر وضوحاً في علاقته مع أطراف الصراع وإدارة مكاسبه من الحرب، ففي حين نجح في توجيه معركته ضد الحوثي، باعتبارها معركةً دينيةً طائفيةً للدفاع عن السُنة، أجل حربه ضد سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي وقوات التحالف مؤقتاً، لإدراكه أن الحرب في النهاية ستصب في صالحه؛ وعدا عن عمليات الطائرات الأميركية بدون طيار التي استهدفت قياداتٍ في التنظيم، لم يخسر التنظيم في الحرب، بل استفاد من الصراعات الاجتماعية والطائفية التي أوجدها لتدعيم قاعدته الاجتماعية، وفرض سلطته.
مرسخاً وجوده اجتماعياً، نجح تنظيم القاعدة في تجذير وجوده في مدينة المكلا سلطة أمر واقع، وساعدته الموارد الاقتصادية التي حصل عليها من ميناء المكلا في تمويل عملياته القتالية خارج المدينة، واستقطاب أنصار جدد، وإنشاء مراكز تدريب للجهاديين. لم يطرأ تغيير على استراتيجية قوات التحالف حيال تنظيم القاعدة، إلا بعد تمدّد التنظيم في مدينة عدن المحرّرة، وتنفيذه عمليات انتحارية ضد مقرات السلطة الشرعية وقوات التحالف، إلا أن الغارات التي نفذتها قوات التحالف ضد التنظيم بمعية الجيش الموالي لهادي، في 24 إبريل/ نيسان الماضي، والتي أسفرت عن خروج التنظيم من المكلا، لم تكن جزءاً من أولويات التحالف في اليمن، بل جاءت تنفيذاً لمخرجات القمة الخليجية الأميركية في الرياض، واستجابة لرغبة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بأن يكون للسعودية دور واضح في مكافحة الإرهاب الذي توسع بسبب الحرب في اليمن. لذا، فإن تحرير مدينة المكلا من تنظيم القاعدة تم بتنسيق أميركي سعودي، وأولوية أميركية.
سوّق إعلام التحالف العربي والسلطة الشرعية اليمنية روايةً واحدةً عن عملية تحرير مدينة
يبدو أن التنظيم كان من أكثر الأطراف دهاءً، حيث فضل عدم الدخول في معركةٍ خاسرةٍ بالنسبة له، وفقاً لحساباته الاجتماعية والدينية والعسكرية والاقتصادية المستقبلية، ونجح في إيهام خصومه بتحقيق نصرٍ زائف، منسحبأ من مدينة المكلا بطريقة ناعمة، كتكتيك مدروس للقاعدة، مبرراً الانسحاب بـ"تجنب وقوع خساشر بشرية بين المدنيين"، مقدّماً نموذجاً مسؤولاً يضمن له الحفاظ على قاعدته الاجتماعية، وتنامي شعبيته في المدينة؛ كما أن التنظيم لم ينسحب إلا بعد أن أرسى سلطاتٍ قبلية دينية تمثله في المدينة. كان دخول التنظيم في معركة مفتوحة مع الجيش سيسبب خسارة مخزونه العسكري الضخم الذي غنمه من اللواء 25 ميكا والجيش اليمني، بينما يضمن بانسحابه إنقاذ كامل عتاده العسكري، فضلاً عن الأموال التي في حوزته، وتمكّنه من تجنيد أتباع للتنظيم وتنفيذ عملياته. علاوة على هذه المكاسب، أدرك التنظيم أن عاماً من ولايته في المكلا خسارته قيادات عليا جراء الغارات الأميركية، بينما يمنحه البقاء في الجيوب القبلية المحيطة بمحافظة حضرموت ومدينة شبوة مجالاً حيوياً للانتشار، وتنفيذ عملياته، معتمداً على الكر والفر، ثم الاختباء.
لم يخرج تنظيم القاعدة من المكلا خاسراً، بل خرج أقوى مما كان سابقاً، حيث لم تتعرّض بنية الإرهاب والتطرف التي كرّستها الحرب أكثر من عام في اليمن لأي خلخلةٍ تذكر، ويؤكد الواقع اليومي في اليمن على تجذّر القاعدة الاجتماعية للتنظيمات الجهادية المسلحة وتوسعها، وهي أمنت لتنظيم القاعدة خروجاً آمناً من دون خسائر من مدينة أبين والمكلا ولحج، وهو ما يؤكده استمرار تنفيذ "القاعدة" و"داعش" عمليات انتحارية شبه يومية في مدينة عدن، دُرة المناطق اليمنية المحررة ، ويثبت فشل السعودية في تأمين مدينة عدن، وعدم امتلاكها استراتيجة واضحة في مكافحة الإرهاب في اليمن. وعليه، ليست معركة تحرير مدينة المكلا من "القاعدة" في جوهرها سوى بروباغندا إعلامية جديدة لدول التحالف العربي، حيث اتخذتها الإمارات ذريعة للنكاية بالإخوان المسلمين، ووظفتها السعودية لتقديم نفسها إقليمياً ودولياً دولة تحارب الإرهاب "السني" في اليمن والمنطقة العربية، ونفي كونها سبباً رئيسياً في إنتاجه، وسحب البساط على اتهامات إيران للسعودية بأنها دولة راعية للإرهاب، وكذا كسب السعودية ود الشارع الأميركي، خصوصاً مع تصاعد الحملات الشعبية ضد سياساتها في المنطقة، فالسعودية لا تهدف من حربها على الإرهاب إلا لتحقيق مكاسبها الإعلامية والسياسية.
لمكافحة تغول التطرف الديني وتنامي الإرهاب في المجتمع اليمني، لا بد أولاً من تقويض بيئة التطرف التي أنتجتها الحرب، وقيام دولة يمنية قوية تتمتع بكامل السيادة على أراضيها من دون وصاية إقليمية، وانتهاج سياسةٍ وطنيةٍ تكافح الإرهاب، وتشرع آلياتٍ واضحةً في تجفيف منابعه، وهو ما لا يبدو ممكناً، بالنظر إلى أولويات ومشاريع أطراف الصراع اليمنية الحالية وحلفائهم، ذلك أن هذه الأطراف هي من أنتجت الحرب وبيئة التطرّف، ولا يمكن، بأي حال، الركون إليها، لمحاربة التطرف والإرهاب، لأنها جزء من فكره وأرضيته اللاأخلاقية.