07 اغسطس 2024
عن الاستراتيجية القطرية في الأزمة الخليجية
لعل من أبرز الظواهر التي كشفت عنها الأزمة الخليجية الراهنة استراتيجية قطر في التعامل معها، أو خطاب قطر وحركتها ردّاً على الحصار المفروض عليها من الدول الأربع، وقد نجحت تلك الاستراتيجية حتى الآن في وقف التصعيد، ودفع دول الحصار إلى التراجع، ودعم ثبات الموقف القطري داخلياً وخارجياً، ما يدفع إلى محاولة شرح تلك الاستراتيجية من ناحية، وقراءة تبعاتها من ناحية أخرى. ومن تابع خطابات الدبلوماسيين القطريين وتحركاتهم الدولية يمكنه أن يقف على أبرز ملامح استراتيجية قطر:
أولاً: نظرت قطر إلى الحصار كمحاولة لعزلها دولياً، ولم ترد بالانسحاب أو الانغلاق على نفسها، أو إعلان تعرّضها لمؤامرة دولية كحال دول عربية عديدة، عند تعرّضها لضغوط داخلية وخارجية، بل ردّت بخطاب وحركة دبلوماسية، تؤكد انفتاحها دولياً وتوثيق علاقاتها بدول العالم.
ثانياً: حتى الولايات المتحدة التي شارك رئيسها خطابياً في الحملة على قطر، رفضت الحكومة القطرية الوقوع في فخ استعدائها، بل حرصت على تأكيد تحالفها معها نوعاً من مواجهة الضغوط عليها. في هذا السياق، برزت تصريحات وزير الخارجية القطري السابق، الشيخ حمد بن جاسم، لوسائل الإعلام الأميركية في زيارته الولايات المتحدة في بداية الأزمة، حيث قال إن سياسات قطرية تبدو مثيرة للجدل، كاستضافة حركة طالبان، تمت بمشورة الولايات المتحدة نفسها، وضمن استراتيجيتها.
وهكذا نجد أنفسنا أمام دولة عربية تتعرّض لحملة خارجية قاسية يشارك فيها الرئيس الأميركي نفسه، ومع ذلك ترفض اللجوء إلى نظرية المؤامرة، بل على العكس ترد على الهجوم بتأكيد
تحالفاتها الخارجية، خصوصاً مع أميركا. وهنا، يظهر كيف ميزت قطر في ردة فعلها بين الرئيس الأميركي والمؤسسات الأميركية، وكيف امتصت الهجوم الخطابي لدونالد ترامب، وردت بالتواصل مع وزاراتٍ، كالخارجية والدفاع، والتي تمتلك ذاكرة مؤسساتية، تدرك تاريخ العلاقة بين قطر والولايات المتحدة.
ثالثاً: لم تكتفِ الدبلوماسية القطرية بالتحرّك أميركياً، بل حرصت على التحرّك دولياً على محاور مختلفة، وخصوصاً على المحور الأوروبي الحليف للولايات المتحدة، من دون أن تتبنّى خطاب مواجهة أو استفزاز للحليف الأميركي ورئيسه الغاضب. وهنا أظهرت تحركات وزير الخارجية الألماني نوعاً من التوازن الأوروبي للدور الأميركي المتسرع في بداية الأزمة، حتى تغير الدور الأميركي تباعاً ببروز دور وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، المعادل لتسرّع ترامب وهجومه على قطر.
رابعاً: ركّزت قطر، في خطابها، على ما أسماه وزير خارجيتها، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، المنهج المنطقي أو القانوني أو المتعارف عليه في العلاقات الدولية، حيث نظر إلى الحصار نوعاً من فرض منطق القوة، في مقابل تغليب منطق القانون وحل الصراعات بالطرق السلمية والدبلوماسية والقانونية المتعارف عليها. ففي المنازعات القانونية، وهي الأكثر تنظيماً وعقلانية، يبدأ كل طرف بتقديم شكواه مدعومة بإثباتات، وينتظر تحقيقاً جادّاً وحكماً عادلاً من جهة محايدة، حتى يحصل على حقه. في المقابل، تخطت دول الحصار عملية التحكيم المنطقية من البداية، وسعت إلى فرض حكمها على قطر من دون أدلة أو وساطة أو انتظار رد قطري. وقد أكد وزير الخارجية القطري على هذه النقطة بشكل متكرّر، وهو منطق تبنته الدول الأوروبية ثم أميركا تباعاً، ووصف بالعقلانية.
خامساً: برز خلال الأزمة تفعيل قطر للدبلوماسية الحقوقية، والتي ركّزت على إبراز الانتهاكات التي تسبب فيها الحصار وتبعاتها على حقوق المواطنين المختلفة، وكذلك رفضت من منطلق حقوقي قمع الحريات والإعلام، وتسليم المعارضين كما طالبت دول الحصار. وفي هذا السياق، أرسلت قطر ممثلين عن اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان ومجلس الشورى القطري للتحدّث في الخارج، كما استضافت مؤتمراً دولياً للدفاع عن قناة الجزيرة وحرية وسائل الإعلام.
ونظراً لما تميزت به الاستراتيجية القطرية من خصائص تعد غير مألوفةٍ في الصراعات العربية البينية التي كانت تنتهي، في أحيان كثيرة، بالتراضي، ومن خلال وساطات واتفاقات سرية، كما حدث في الأزمة الخليجية مع قطر في عام 2014، يجوز لنا أن نبحث في تبعات الاستراتيجية الجديدة. ونرصد هنا ثلاثاً منها:
أولاً: من شأن الاستراتيجية القطرية إطالة أمد الأزمة، ليس لأنها استراتيجية خاطئة، أو لأنها تتعمد ذلك، ولكن لأنها ترفض الانصياع لمنطق القوة المفروض عليها من الدول الأربع، والتي أعلنت مراراً عزمها الاستمرار في الضغط على قطر، وإلحاق الأذى بها على مختلف المستويات. لذا قد تطول الأزمة الراهنة، وإن سعت الدول الغربية إلى تقليص مدتها بسبب تبعاتها السلبية على الشركات الدولية مع دول الخليج.
باختصار، تحاول قطر تغيير قواعد اللعبة والأساليب المتبعة في إدارة علاقات عربية كثيرة في منطقةٍ اعتادت على منطق القوة وفرض الإرادات بالباطل في أمورٍ كثيرة، وهو أمر لن يكون سهلاً.
ثانياً: من شأن الاستراتيجية القطرية تسليط مزيد من الضوء الدولي على قطر، على المستوى المنظور، لأن قطر اعتمدت أسلوب الانفتاح والتواصل مع العالم مخرجاً من الأزمة، قطر
وقعت مذكرة تفاهم لمكافحة تمويل الإرهاب مع الولايات المتحدة، وتعاقدت مع مكتب أميركي خاص بقيادة وزير العدل الأميركي السابق، جون أشكروفت، لمساعدتها في التحقيق فيما يتعلق بتتبع مصادر تمويل الإرهاب، كما أعربت عن استعدادها فتح ملفاتها أمام الاستخبارات الألمانية، وأرسلت مسؤولين حقوقيين للعالم، واستضافت مدافعين دوليين عن حقوق الإعلام.
كل هذه التحركات تعني مزيداً من الانفتاح على العالم، وتضع قطر أكثر تحت دائرة الضوء، وتحث مسؤولي قطر على الانفتاح أكثر، وعلى مراعاة المعايير الدولية في الخطاب والممارسات، في ظل حالة من الترقب والترصد من دول الحصار، وفي ظل أزمةٍ ستطول، وهو تحدّ ربما لم تعتد عليه الدول العربية، ومن شأن نجاح قطر فيه توثيق علاقاتها بمؤسسات المجتمع الدولي المختلفة.
ثالثاً: على المستويين، الشعبي والجماهيري، تمثل الاستراتيجية القطرية تحدياً فكرياً كبيراً لحركات وقوى جماهيرية كثيرة، مؤيدة للموقف القطري، بسبب تحديها أساليب تفكير عربية منتشرة، وقائمة على فكرة المؤامرة الدولية ضد شعوب المنطقة.
تعرّضت قطر لحصار مفاجئ وقاس، بدعم مباشر من الرئيسي الأميركي، دونالد ترامب. ومع ذلك، ردت عليه بتأكيد تحالفها مع الولايات المتحدة نفسها، وميزت بين الرئيس والمؤسسات، وذكّرت العالم بأن بعض سياسات لها تبدو خلافية، كاستضافة "طالبان"، تمت بدعم أميركي. وسارعت إلى توقيع مزيد من الاتفاقات الأمنية مع أميركا نفسها في ظل انفتاح دولي أكبر، ولم تلجأ إلى العزلة أو إلى خطاب المؤامرة، أو إلى الخطابات العنترية، أو إلى البحث عن بديل عن تحالفها مع القطب الأميركي، وكأنها تقول للحركات الجماهيرية إن التعاون مع الولايات المتحدة والغرب لا يتم بوتيرة واحدة، ويمكن توجيهه نحو خدمة قضايانا.
وبالطبع، ساعدت قطر على النجاح في تلك الاستراتيجية مواردها وعلاقاتها الاقتصادية الضخمة، وتحالفاتها الإقليمية مع دول كتركيا، ومؤسسات صناعة القرار القطرية نفسها، والتي صاغت ردها بهذا الشكل، وكلها موارد لا تتوفر للقوى الجماهيرية التي مازالت تميل إلى خطاب المؤامرة، وتفتقر للكوادر المؤهلة دبلوماسياً وحقوقياً ولشبكات العلاقات الدولية الواسعة. لذا، تبقى الاستراتيجية القطرية تحدياً فكرياً على الأقل، خصوصاً لو تم ترويجه نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه سياسة الحركات الجماهيرية العربية في علاقاتها بالعالم.
أولاً: نظرت قطر إلى الحصار كمحاولة لعزلها دولياً، ولم ترد بالانسحاب أو الانغلاق على نفسها، أو إعلان تعرّضها لمؤامرة دولية كحال دول عربية عديدة، عند تعرّضها لضغوط داخلية وخارجية، بل ردّت بخطاب وحركة دبلوماسية، تؤكد انفتاحها دولياً وتوثيق علاقاتها بدول العالم.
ثانياً: حتى الولايات المتحدة التي شارك رئيسها خطابياً في الحملة على قطر، رفضت الحكومة القطرية الوقوع في فخ استعدائها، بل حرصت على تأكيد تحالفها معها نوعاً من مواجهة الضغوط عليها. في هذا السياق، برزت تصريحات وزير الخارجية القطري السابق، الشيخ حمد بن جاسم، لوسائل الإعلام الأميركية في زيارته الولايات المتحدة في بداية الأزمة، حيث قال إن سياسات قطرية تبدو مثيرة للجدل، كاستضافة حركة طالبان، تمت بمشورة الولايات المتحدة نفسها، وضمن استراتيجيتها.
وهكذا نجد أنفسنا أمام دولة عربية تتعرّض لحملة خارجية قاسية يشارك فيها الرئيس الأميركي نفسه، ومع ذلك ترفض اللجوء إلى نظرية المؤامرة، بل على العكس ترد على الهجوم بتأكيد
ثالثاً: لم تكتفِ الدبلوماسية القطرية بالتحرّك أميركياً، بل حرصت على التحرّك دولياً على محاور مختلفة، وخصوصاً على المحور الأوروبي الحليف للولايات المتحدة، من دون أن تتبنّى خطاب مواجهة أو استفزاز للحليف الأميركي ورئيسه الغاضب. وهنا أظهرت تحركات وزير الخارجية الألماني نوعاً من التوازن الأوروبي للدور الأميركي المتسرع في بداية الأزمة، حتى تغير الدور الأميركي تباعاً ببروز دور وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، المعادل لتسرّع ترامب وهجومه على قطر.
رابعاً: ركّزت قطر، في خطابها، على ما أسماه وزير خارجيتها، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، المنهج المنطقي أو القانوني أو المتعارف عليه في العلاقات الدولية، حيث نظر إلى الحصار نوعاً من فرض منطق القوة، في مقابل تغليب منطق القانون وحل الصراعات بالطرق السلمية والدبلوماسية والقانونية المتعارف عليها. ففي المنازعات القانونية، وهي الأكثر تنظيماً وعقلانية، يبدأ كل طرف بتقديم شكواه مدعومة بإثباتات، وينتظر تحقيقاً جادّاً وحكماً عادلاً من جهة محايدة، حتى يحصل على حقه. في المقابل، تخطت دول الحصار عملية التحكيم المنطقية من البداية، وسعت إلى فرض حكمها على قطر من دون أدلة أو وساطة أو انتظار رد قطري. وقد أكد وزير الخارجية القطري على هذه النقطة بشكل متكرّر، وهو منطق تبنته الدول الأوروبية ثم أميركا تباعاً، ووصف بالعقلانية.
خامساً: برز خلال الأزمة تفعيل قطر للدبلوماسية الحقوقية، والتي ركّزت على إبراز الانتهاكات التي تسبب فيها الحصار وتبعاتها على حقوق المواطنين المختلفة، وكذلك رفضت من منطلق حقوقي قمع الحريات والإعلام، وتسليم المعارضين كما طالبت دول الحصار. وفي هذا السياق، أرسلت قطر ممثلين عن اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان ومجلس الشورى القطري للتحدّث في الخارج، كما استضافت مؤتمراً دولياً للدفاع عن قناة الجزيرة وحرية وسائل الإعلام.
ونظراً لما تميزت به الاستراتيجية القطرية من خصائص تعد غير مألوفةٍ في الصراعات العربية البينية التي كانت تنتهي، في أحيان كثيرة، بالتراضي، ومن خلال وساطات واتفاقات سرية، كما حدث في الأزمة الخليجية مع قطر في عام 2014، يجوز لنا أن نبحث في تبعات الاستراتيجية الجديدة. ونرصد هنا ثلاثاً منها:
أولاً: من شأن الاستراتيجية القطرية إطالة أمد الأزمة، ليس لأنها استراتيجية خاطئة، أو لأنها تتعمد ذلك، ولكن لأنها ترفض الانصياع لمنطق القوة المفروض عليها من الدول الأربع، والتي أعلنت مراراً عزمها الاستمرار في الضغط على قطر، وإلحاق الأذى بها على مختلف المستويات. لذا قد تطول الأزمة الراهنة، وإن سعت الدول الغربية إلى تقليص مدتها بسبب تبعاتها السلبية على الشركات الدولية مع دول الخليج.
باختصار، تحاول قطر تغيير قواعد اللعبة والأساليب المتبعة في إدارة علاقات عربية كثيرة في منطقةٍ اعتادت على منطق القوة وفرض الإرادات بالباطل في أمورٍ كثيرة، وهو أمر لن يكون سهلاً.
ثانياً: من شأن الاستراتيجية القطرية تسليط مزيد من الضوء الدولي على قطر، على المستوى المنظور، لأن قطر اعتمدت أسلوب الانفتاح والتواصل مع العالم مخرجاً من الأزمة، قطر
كل هذه التحركات تعني مزيداً من الانفتاح على العالم، وتضع قطر أكثر تحت دائرة الضوء، وتحث مسؤولي قطر على الانفتاح أكثر، وعلى مراعاة المعايير الدولية في الخطاب والممارسات، في ظل حالة من الترقب والترصد من دول الحصار، وفي ظل أزمةٍ ستطول، وهو تحدّ ربما لم تعتد عليه الدول العربية، ومن شأن نجاح قطر فيه توثيق علاقاتها بمؤسسات المجتمع الدولي المختلفة.
ثالثاً: على المستويين، الشعبي والجماهيري، تمثل الاستراتيجية القطرية تحدياً فكرياً كبيراً لحركات وقوى جماهيرية كثيرة، مؤيدة للموقف القطري، بسبب تحديها أساليب تفكير عربية منتشرة، وقائمة على فكرة المؤامرة الدولية ضد شعوب المنطقة.
تعرّضت قطر لحصار مفاجئ وقاس، بدعم مباشر من الرئيسي الأميركي، دونالد ترامب. ومع ذلك، ردت عليه بتأكيد تحالفها مع الولايات المتحدة نفسها، وميزت بين الرئيس والمؤسسات، وذكّرت العالم بأن بعض سياسات لها تبدو خلافية، كاستضافة "طالبان"، تمت بدعم أميركي. وسارعت إلى توقيع مزيد من الاتفاقات الأمنية مع أميركا نفسها في ظل انفتاح دولي أكبر، ولم تلجأ إلى العزلة أو إلى خطاب المؤامرة، أو إلى الخطابات العنترية، أو إلى البحث عن بديل عن تحالفها مع القطب الأميركي، وكأنها تقول للحركات الجماهيرية إن التعاون مع الولايات المتحدة والغرب لا يتم بوتيرة واحدة، ويمكن توجيهه نحو خدمة قضايانا.
وبالطبع، ساعدت قطر على النجاح في تلك الاستراتيجية مواردها وعلاقاتها الاقتصادية الضخمة، وتحالفاتها الإقليمية مع دول كتركيا، ومؤسسات صناعة القرار القطرية نفسها، والتي صاغت ردها بهذا الشكل، وكلها موارد لا تتوفر للقوى الجماهيرية التي مازالت تميل إلى خطاب المؤامرة، وتفتقر للكوادر المؤهلة دبلوماسياً وحقوقياً ولشبكات العلاقات الدولية الواسعة. لذا، تبقى الاستراتيجية القطرية تحدياً فكرياً على الأقل، خصوصاً لو تم ترويجه نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه سياسة الحركات الجماهيرية العربية في علاقاتها بالعالم.