عن "تصنيم" الدولة العربية

15 ابريل 2014
+ الخط -

كان مفهوم الدولة، ولا يزال، من أكثر المفاهيم إثارةً للجدل النظري والعملي، منذ ظهور مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، بعد توقيع اتفاق وستفاليا عام ١٦٤٨، والذي أنهى الحروب الأوروبية، أو ما كان يعرف بحرب الثلاثين عاماً بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وغيرها من الدول الأوروبية، أو أوروبا الوسطى، كما كان يطلق عليها آنذاك. وكان اتفاق وستفاليا أول تدشينٍ عمليٍّ للدولة الحديثة، ذات السيادة التي تستطيع أن تفرض سلطانها على أراضيها ورعاياها، من دون التعدي على أراضي الدول المجاورة، أو رعاياها.
ومن اللافت أن الجدل الفكري والنظري بشأن مفهوم الدولة، وسيادتها ووظائفها، كان قد سبق ظهور مفهوم الدولة بالمعنى السياسي. ما يظهر، بوضوح، في جدلٍ طرحه مفهوم توماس هوبز للدولة التنين ذات السيادة المطلقة، والتي يجب أن تُخضع مواطنيها لسلطانها، استناداً إلى حالة الشر، أو حالة الطبيعة الأولى التي يسيطر فيها اللانظام، أو الفوضى على حياة البشر. وهو ما عارضه فيه جون لوك وجان جاك روسو، عندما أرادا إعادة تأطير البعد الأخلاقي للنفس البشرية، وبالتالي، رفضهما السلطان المطلق لمفهوم الدولة، ما أسفر عن ظهور فكرة "العقد الاجتماعي" التي كانت محاولةً لإحداث قدر من التوازن بين الدولة والمجتمع، بحيث يتنازل الأخير عن جزءٍ من حقوقه بإرادته المطلقة لمصلحة الدولة، في مقابل قيام هذه الأخيرة بحمايته، وتوفير الخدمات له. وهي فكرةٌ التقطها هيغل، وأعطاها طابعاً مثالياً، يعتبر الدولة تعبيراً عن "الروح" العامة للجماعة التي تجسد إرادتها، وإن أية ممارسة لحرية الأفراد يجب أن تتم من خلال الدولة، وهي فكرةٌ انتقدها كارل ماركس، واعتبرها ذريعة لقهر الدولة للفرد. في حين وصل النقد المعاصر لمفهوم الدولة إلى قدرٍ عالٍ من التفكيك وإعادة النظر في طبيعتها ومفهومها ووظائفها.


ومن خلال كتابات باحثين ومفكرين، يمكن الحديث عن خمس نظريات لمفهوم الدولة، أولها النظرية المطلقة للدولة التي ترى الدولة كائناً مقدساً ذا سلطةٍ مطلقةٍ، لا يجب مساءلتها. وثانيها النظرية الدستورية للدولة، وتضع الدولة ضمن بناءٍ دستوريٍّ وقانونيٍّ، يتضمن تحديد الوظائف الأساسية للدولة، ويقيد دورها. وثالثها النظرية الأخلاقية للدولة، وتعطي الأفراد حقوقاً ومزايا في مواجهة الدولة ومؤسساتها، وتفترض أن لدى الأفراد من الحس الأخلاقي ما يجعلهم يحترمون قواعد الدولة وقوانينها. ورابعها النظرية الطبقية للدولة، وتهتم بدراسة الصراع الاجتماعي والسياسي الطبقي في الدولة. وأخيراً، النظرية التعددية للدولة، والتي تعيد النظر في مفهوم السيادة المطلقة للدولة، وتتبنى مفهوماً أكثر مرونةً لها، يعترف بالجماعات والطوائف والأقليات المكونة لها.
وبقدر التطور والنقاش بشأن مفهوم الدولة في الغرب، بقدر ما يبدو مفهوم الدولة في العالم العربي ساكناً جامداً، يتمحور حول معنى واحد، هو الدولة المتغلبة أو القاهرة. وهو مفهوم يضرب بجذوره في الثقافة، والخبرة العربية والإسلامية التي نشأت فيها الدولة بقوة السلاح، وليس من خلال تفاعل وتدافع اجتماعيٍّ وطبقيٍّ، قد يثمر قدراً من التوازن بين الدولة والمجتمع، أو بالأحرى بين السلطة والفرد. وفى كل مرةٍ، حاول فيها المجتمع، أو جزءٌ منه القيام بتحقيق هذا التوازن، من خلال حركة تمردٍ، أو ثورة شعبيةٍ، يتم قمعه، أو استحضار مفهوم الدولة القاهرة، من أجل التخلص من هذه الحركة.
ومن المفارقات أنه لا يتم استحضار مفهوم الدولة في العالم العربي، إلا عند استخدام القوة والعنف الرسمي ضد المعارضين، وذلك من دون أي حديث يذكر عن طبيعة هذه الدولة وكنهها من جهة، ووظائفها وواجباتها ومسؤوليتها تجاه مواطنيها من جهة أخرى. لذا، ففي كل مرة يحدث فيها قدر من الصراع، أو التعارض بين الدولة والأفراد، فإن أول ما تتم التضحية به هو حقوق الأفراد وحرياتهم من أجل مصلحة الدولة. وهو ما يحدث في مصر منذ انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013، حيث أصبح خطاب الدولة السائد بين النخب وقطاعٍ عريضٍ من الشعب الذي جرى غسل دماغه بحملةٍ إعلامية منظمةٍ، تستهدف محو أي حديثٍ عن حقوق الأفراد وحرياتهم، بذريعة الحفاظ على الدولة. وهو الخطاب نفسه الذي جرى استخدامه، لتبرير الانقلاب، والحديث الخرافي حول سعي "الإخوان المسلمين"، وغيرهم من الحركات الثورية، إلى تحطيم الدولة وتفكيكها.
هناك نوعان من المروجين والمنافحين عن الخطاب الأحادي للدولة، أولهما، الأفراد المستفيدون، بشكل مباشر، من بقاء هذه الدولة على حالها، من دون إصلاح أو تغيير، لأن ذلك يصب مباشرة في مصالحهم، وذلك إذا ما اعتبرنا أن السياسة، في جوهرها، صراع بين جماعات وفئات وطبقات، تسعى كل منها إلى تحقيق مصالحها على حساب الآخرين. والنوع الثاني هم المؤمنون حقاً بأهمية الدولة، وضرورة الحفاظ على بقائها وتماسكها، وهؤلاء، أيضاً، يُغالون ويبالغون في نظرتهم للدولة. هم لا يرون فيها سوى "بقرة مقدسة"، يجب ركوع الأفراد وسجودهم لها، ولو على حساب حقوقهم وحرياتهم. ولا يذكر هؤلاء شيئاً عن مسؤولية الدولة، ووظائفها الأساسية من تعليم وصحة ومرافق عامة... إلخ. وهم يقدمون مصلحة الدولة على مصلحة الفرد والمجتمع، وكأن الدولة أصبحت كائناً مغلقاً، أو صنماً مؤسساتياً، لا يجوز الاقتراب منه، وإلا تفكك وانهار، وهو أمر يبدو أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة.

 

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".