عن "الميغا ليبرالية" النفطية
يعدّ الاستعمار الحدث الأثقل في رسم ملامح تاريخ أمم كثيرة. وبعد نابليون بونابرت، أخذ شكلاً آخر، فقد ولدت الرأسمالية وبدأت الصناعة والعصر الصناعي بالظهور، فأصبح التعريف التقليدي للاستعمار لا يستوعب حقيقة الاستعمار الحديث، ما حدا بالراحل المهدي المنجرة إلى ابتكار مصطلح "الميغا إمبريالية"، كناية عن أنّ الاستعمار مضاعف ألوف المرات عما كان عليه سابقاً. وربما لا يعرف تعريف المنجرة الاستعمار الحديث نفسه، إلا أنّه يعتبر القوة آلة معيارية لتفسيره، كما أنّ استعارته كلمة "ميغا" واقعية جداً في عصر استعماري "تكنولوجي/تقني".
منذ تطور الرأسمالية وظهور الصناعة، بالإضافة إلى العلم، اتحدت هذه العناصر لتشكل حلفاً وأدوات بأيدي الاستعمار الحديث الذي يسعى، موظفاً العناصر الثلاثة، إلى تصنيف الأفراد في العالم بين منتج ومستهلك داخل مجتمعاتٍ، تحكمها المصلحة ونزعات السوق الأخرى. وقد أوجدت الليبرالية اليوم، أو "قومية التاجر" بشكل أدق، دولاً تعمل لمصالح التجار، وتصوّر هذه المصالح على أنّها مصالح الأمة بأسرها، مثل حرب السوفييت في أفغانستان وغزو العراق الكويت، فقد كان هذا العالم سريعاً وحاسماً في طرد السوفييت ومعاقبة العراق، إلا أنّه، أي العالم السريع الحاسم، هو نفسه الذي يكتفي بالتعبير، بشكل بليد وبارد، عن مشاعر قلقه تجاه مآسي أطفال غزة.
هذا أهم ما يخص الرأسمال والصناعة، أما العلم، فمنذ تحالفه مع الاستعمار، أصبح يُقَدَّم بطابع شمولي. فهو وإن كان يقول إنّه يوفر الحلول، إلا أنّه أسهم في تعزيز روح التنافس التكنوقراطي اللاشريف واللاإنساني، ابتداء من نشر الأمراض، مثل إيبولا، في العالم الثالث، واحتكار حق ابتكار علاج باهظ ومربح، وتسهيل هجرة العقول إليه، وانتهاء باغتيال علماء الدول التي تهدد الصدارة الاستعمارية.
ولم يدر في خلد أحد ممن عاصروا فترة الطفرة أنّ تلك الرفاهية القصيرة المدى كان لها نتيجة طويلة المدى، إذ تحول المجتمع، لأوّل مرّة، من مجتمع مهني إلى استهلاكي. حينها، ﻷول مرة، كان علينا أن نواجه العالم بشكل يشوبه التحدي باسم الانفتاح، ومن جهة أخرى بشكل يشوبه التهديد باسم الرأي الآخر والتعددية الثقافية.
وعلى غرار جحا ومعارضته الهزلية، المليئة بالرموز والإيحاءات، عُرِضَت استجابة لهذه التغيرات مسرحية "باي باي لندن"، ليطلّ علينا المواطن شارد بن جمعة، وهو ابن للنفط، يحاول أن ينفي صلته بكل ما قبل النفط، وعلامته الفاضحة زيّه غير المتناسق بربطة عنقه الصفراء، وسذاجته الشكلية والمظهرية التي تحرص أن تكون لساعته اليدوية ولحزام بنطاله ولحذائه الألوان نفسها.
يحاول إنسان يعيش صراعاً مع نفسه أن يخفي هذا الصراع، بإذابة علاقته مع ماضيه، وبالذوبان المظهري، ولو تطلب الأمر تتبّع الموضة والأزياء تحت مسمى التطوّر والتحضّر. أما المواطن الآخر، نهّاش فتى الجبل والبراري والقفار، فلا تزال روحه البدويّة روح ما قبل النفط، متقدّة بحبّه الألقاب الفخمة، وكثرة ترديده مبادئ الشجاعة والوفاء والاعتزاز بالهوية، عبر تقيّده بزيّه البدوي التقليدي في ملاهي لندن بين النساء والخمور. أسدلت المسرحية ستارها بتعرض الرجلين للاحتيال، والمغزى ليس إعلام الناس أنهم براميل نفط يجب استحلاب ثرواتها فحسب، بل سلّطت المسرحية الضوء على الانتقاء العشوائي للقيم في مجتمعات نفطية، تحوي قيماً غير متجانسة، لكنها، أي هذه القيم غير المتجانسة، متجاورة، في الوقت نفسه، ما أسهم في إيجاد نمطين، لا ثالث لهما، جمعة أو نهّاش.
والحقيقة أنّه طبيعي أن نبدو بهذا التناقض القيمي الشرس، فالطبيعي أن يسعى الإنسان إلى شكل يوافق مضمونه، أما اليوم فإننا نعاني البحث عن شكل يستر صراعاتنا الداخلية فقط، ما يجعلنا متناقضين وقلقين وغير مستقرين، أحياناً كثيرة. وعلى الرغم من الوطيس الحامي لهذه المعركة التي تهدد الفرد والمجتمع، فإنّ الجميع يبحث عن شكل سياسي، ونظام يستقر إليه.
فمحاولة تغيير الأنظمة، ستسهم (قطعاً) في مزيد من الأزمة والشعارات التي تدعو إلى مواكبة العالم المتقدم، ومحاربة التخلف، في الحقيقة، لن تقدم سوى إزالة كل القيود التي بيننا، كشعوب مستهلكة، وعالم أول منتج للأشياء والأفكار أيضاً. ولا يهدف هذا الحديث إلى التثبيط، بل يحاول قراءة الواقع، وربما هو إجراء وقائي واحترازي ضد الصدمة التي حصلت لبلدان العالم الثالث التي كانت تحلم بالحرية، وقدّست صناديق الانتخاب، فاختلط فيها الحبر الانتخابي على الأصابع مع دماء الرؤوس المقطّعة والجثث والملامح الشاحبة للمشردين وقصص التفجير والتدمير.
وعلى الرغم من أنّ المعركة تشير إلى هزيمة على صعيدي الفرد والمجتمع، فذاك لأنّ الحلول السياسية المطروحة لن تجدي، ليس لعجزها، بل ﻷنّ هذه الحلول ولدت ميتة من الأساس وفاقدة الفعاليّة.
والرأسمالية، جوهر الديمقراطية الليبرالية في الغرب، تقوم على مبادئ، الرأسمال فيها ركيزة التوازن الديمقراطي والليبرالي هناك. المبدأ الأول هو البنك، فالبنك لا وطن له، ولا حدود لعملياته المالية، ويتعامل مع المواطن والأجنبي على حد سواء. المبدأ الثاني، التمويل، فالبنوك تقول إنها تموّل المشاريع، لكنها تكذب، فهي تستثمر بنسبة ربح محددة مسبقاً، تحت غطاء التمويل. ولهذا، يتم تجاهل مصالح الإنسان عمداً والاستثمار في صفقات السلاح، في مناطق النزاعات والحروب أكثر من مساعدات الغذاء الخيري للمشردين ولاجئي المخيمات، ﻷنّ الغذاء الخيري، من وجهة نظر العقل الاستثماري الرأسمالي، خدمات مجانية لا تدرّ الأرباح. المبدأ الثالث، أنّ البنك، أساساً، مؤسسة تجارية، وهو يحتاج كي يستقر نظامه المالي إلى دولة مؤسسات، يستثمر في هذه المؤسسات وحملاتها ويطوعها لمصالحه، ويحتاج إلى نظام الأحزاب، لكي تتوازن القوى التي تطلب سبل إرضائه، وتخضع له، كونه مورد حاجاتهم، كما يخضع الزبائن للتاجر المُحْتَكِر، ويحتاج إلى صحافة حرة وقضاء نزيه، وكل ما يهيئ للبنك ورأس المال أرضاً مستقرة، ﻷنّ الأرض المستقرة هي الشرط الوحيد الذي عرفه التاريخ للاستثمار والربح.
هكذا يتميز هذا النظام الديمقراطي الليبرالي عن العالم الثالث بأنه حصّن نفسه سلفاً ضد أي انقلاب عسكري، ليس ﻷنّ الناس هناك يحترمون الديمقراطية، بل ﻷنّ قائد الجيش لن يجرؤ على انقلابٍ من شأنه أن يجعل البنوك تحول استثماراتها إلى الخارج، فيخسر مكتسباته ومرتباته، وتترك له شعباً غاضباً ومهدّداً بالجوع، ووطناً في حالة من الشغب والفوضى. أما رئيس البلاد فيعلم أنّ الاقتصاد الحقيقي للدولة التي يحكمها هو اقتصاد السوق، أي رؤوس الأموال، متمثلة في البنوك والتجار، وليس اقتصاد الدولة نفسها، ما يجعله خاضعاً.
في ظلّ هذه الصيغة السياسية الغربية، نشأت لدينا صيغتان: الأولى، صاغها لينين، فالنظام في سورية، مثلاً، لا يقرّ لشركة "ماستر كارد" بأي عمولة تحصل عليها عند كل عملية مالية، تتم عبر بطاقتها من أي مكان في العالم، ﻷنه نظام لا يقبل البنك الغربي، ويستبدله بأفراد صرّافين للعملات في محلات صغيرة، يبيعون سجائر ومرطبات، في الوقت نفسه، يقدمون خدمات مصرفية أوليّة، ويستبدلون عملات السيّاح على أطراف الأرصفة. الثانية، صيغة البنك النفطي، يعيش في بلد متخلف التنمية، ليس ﻷنّ الحكومة فاسدة، بل ﻷنها حكومة واقعية من منظور ليبرالي، حيث إن عائد ربح الاستثمار في نادٍ أجنبي شهير مربح أكثر من إنشاء شبكة طرق بين مدن هذا البلد النفطية، أو منح وحدات سكنية للمواطنين هناك. هكذا، فإنّ مدير البنك النفطي، عكس نظيره في الغرب، أداة في يد الدولة، وعدم التزامه يعني فصله، فالرئيس الموريتاني الأسبق، معاوية ولد الطايع، مثلاً، كان يتقاضى عمولة مالية عن كل حمولة سمك يتم إنتاجها من شواطئ انواذيبو، من دون علم وزير الاقتصاد، وبتواطؤ من البنك الموريتاني المركزي، فلما طلب الانقلابيون، بعد إسقاط ولد الطايع، من سويسرا استرداد أموال باسمه، طلبت منهم سويسرا الديمقراطية أن يثبتوا، أولاً، أنّ هذه الأموال ليست من عرق جبين ولد الطايع نفسه.
.. يموت المريض إذا تناول الدواء الخاطئ، والشعارات السياسية ذات وهج براق، وكلمات رنانة، لكن نتائجها معتوهة، تفضي إلى مزيد من الانهيار. وذلك كله يقول لنا إنّ العرب يلقون حتفهم نتيجة خديعتهم المستمرة بهذه الشعارات، وعجزهم عن الوعي بواقعهم، فضلاً عن السعي الجاد إلى صياغة الحل، وحقاً إنّ الله الهادي إلى سواء السبيل.