فإذا كان العديد من الكورسيكيين، لا يريدون أن يبقوا في الحاضنة الفرنسية، وهم يتمزقون بين أنصار الحكم الذاتي وأنصار الاستقلال التام، فهم يرون في الأجانب وخاصة المهاجرين الذين يمثلون 10 في المائة من سكان كورسيكا، نحو 20 ألف شخص، أغلبهم من أصول مغربية (88 في المائة)، عملاء وأدوات "للاحتلال" الفرنسي، لجزيرتهم.
والعنصرية التي تشهدها هذه الجزيرة ليست وليدة اليوم، إن ما يميز ما حدث مساء الجمعة من توجه نحو ثلاثمائة مواطن فرنسي، بشكل علني ومُنظَّم (إذ الاعتداءات السابقة كانت تتم في عزّ الليل أو بصفة فردية، أو برغبة من الجناة في ألا يُتعرَّفَ عليهم) إلى مكان للعبادة الإسلامية (مصلى) وتخريبه ثم تجميع المصاحف القرآنية وإحراقها، يفوق مجرد انفجار للعنصرية الموجودة بقوة، ويكفي تصفح المجلات والصحف منذ عشرات السنين لمعرفة تغلغل العنصرية في المجتمع الكورسيكي.
إن ما حدث، كما يقول لنا، الباحث جمال الحمري، "يمثل ذروة العنصرية والإسلاموفوبيا، لأن ما حدث لا يبدو أنه من فعل أفراد معزولين، بل تم من خلال عمل منظم شارك فيه الكثيرون، وتم باسم الدفاع عن الجمهورية، وكان بالإمكان حدوث نتائج مأساوية حقيقية".
التقينا بعض العمال المغاربيين، الذين سبق لهم أن أقاموا في كورسيكا، في بدايات وصولهم إلى فرنسا، وتحدثوا عن ظروف بالغة القسوة، وعن خطر الموت.
اقرأ أيضا: موجة كراهية ضد مسلمي أميركا
كشف عامل متقاعد، يدعى محمد العمري، عن تهديدات بالموت تعرض لها حين أراد أن يحصل على ما يستحقه من مال نظير عمله.
وقال محمد "تناول الكورسيكي بندقية وهددني، بالموت، الكورسيكيون مسلحون. والسلاح متوفر، بكثرة".
غزت الشعارات العنصرية من قبيل "العربي خارج كورسيكا"، الجزيرة منذ عقود، ومع بدايات وصول العرب للعمل في الجزيرة، في الزراعة، وإذا أراد العربي ألا يتعرض للوصم فعليه أن يطأ رأسه، ولا يُظهر ذكاءه، ولا تكوينه الدراسي العالي، أي أن يظل عاملا زراعيا، كما كان عليه آباؤه وأجداده.
تحاول وسائل الإعلام الفرنسية، والساسة الفرنسيون، خاصة الحكوميين، تصوير الأمر باعتباره ردّا طبيعيا من قبل مواطنين فرنسيين أغضبهم قيام شباب غاضبين، معظمهم من أصول عربية من ضاحية أجاكسيو الفقيرة، بمهاجمة رجال مطافئ، ورجال شرطة، جرح خلاله اثنان من رجال المطافئ وشرطي.
اقرأ أيضا:قناة لبنانية تصف دولاً عربية وأفريقية بالمتخلّفة... لـ"التنمير" سياسياً
ولكن التجمع التضامني مع موظفي الدولة تجاوز حدوده، كما يقول لنا جمال الحمري "فكيف يُعقل أن يحاول مواطنون تطبيق القانون بأيديهم؟ ثم ما هي العلاقة بين قيام أقلية صغيرة بمهاجمة رجال أمن، وإحراق متظاهرين فرنسيين لمكان عبادة؟ وأين هي الدولة وسلطتها؟ وأين هي الشرطة التي كان يفترض أن تحمي أماكن العبادة، خاصة في ظل حالة الطوارئ؟
وإذا كان رئيس الوزراء، ووزير داخليته، أدانا الاعتداء على رجال المطافئ، وأدانا أيضا إحراق مصلى، فإن التعزيزات الأمنية لن تصل إلا يوم الأحد، وقد أجمعت مختلف مواقف ممثلي المسلمين في فرنسا على وجوب ضبط النفس، وتجنب ما يمكن أن يؤدي لتصفية حسابات دموية، ولم تغب عن بال الكثيرين من رموز الجالية العربية الإسلامية الصورة السيئة التي تكرست لدى الكثيرين من الفرنسيين عن الإسلام، بعد الاعتداءات الإرهابية في يناير/كانون الثاني، ونوفمبر/تشرين الثاني الأخيرين، ومن هنا قرار المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية فتح أبواب المساجد التي يديرها، أمام عموم الفرنسيين، يومي 9 و10 يناير/كانون الثاني 2016 مع الذكرى الأولى للاعتداء على "شارلي إيبدو".
وإذا كان الكثيرون من المغاربة المتواجدين في الجزيرة لا يزالون يتذكرون دور أجدادهم وآبائهم من الجنود المغاربة في الجيش الكولونيالي الفرنسي في تحرير الجزيرة من النازية، سنة 1943، فإن عنصريي الجزيرة لا يريدون سوى رحيل هؤلاء الضيوف.
ولعلّ آخر مثال للعنصرية، التي تطاول العرب أكثر من غيرهم، ما حدث في شهر حزيران/يونيو الماضي، حين تمّ تهديد مُدرِّسَتَين لمجرد أنهما أرادتا تعليم تلاميذهما أغنية للمغني جان لينون باللغة العربية، ولطخت جدران المدرسة بشعارات تطالب العرب بالرحيل، وتطلب الأمر تدخل وزيرة التربية الوطنية، نجاة فالو بلقاسم لإدانة هذا الفعل العنصري.
يبقى أن نشير إلى أن عَلَم كورسيكا الحالي، الذي تمّ تبنيه سنة 1762، يمثل صورة الجانب الأيسر لرأس رجل عربي أسود وفوق الرأس منديل أبيض، وعلى الرغم من صعوبة تحديد الرواية الصحيحة لهذا الحضور العربي في العلَم الكورسيكي، إلا أن إحدى الروايات تقول إن أصله يعود إلى الفترة التي تعرضت فيها الجزيرة لغزو المسلمين، وأقدم حينها الجنود الكورسيكيون، بغرض إدهاش خصومهم وتثبيط عزائمهم، على قطع رؤوس أعدائهم وتعليقها على رماح، وهكذا أصبح رأس العربي رمزا لانتصار المحاربين الكورسيكيين قبل أن يصبح رمزا وطنيا.
اقرأ أيضا: مسلمو أميركا.. تعاطف داخلي ضد العنصرية