عندما يعرّي كورونا أنظمة الصحة المغاربية

05 ابريل 2020
+ الخط -
تصعب مقارنة الأنظمة الصحية التي اتبعتها دول المغرب بعد الاستقلال، لخصوصياتها وتعقّدها، ولكن يبدو أن فيروس كورونا يساعد على تشخيصها والتفطن إلى عللها الكثيرة. وبقطع النظر عما حازته الصحة العمومية من نسب ضمن الميزانيات العامة لهذه الدول، فإن جملة استنتاجات بارزة يمكن استعراضها: 
لقد تراجعت ميزانية الصحة العمومية في كل هذه البلدان في السنوات الأخيرة، لاعتبارات عديدة، لعل أهمها تخلي الدولة عن القطاع العام، لفائدة قطاع خاص نما بشكل طفيلي، حتى حوّل الصحة إلى "سياحة الأثرياء" القادمين من دول أجنبية، بحثا عن جراحة التجميل وغيرها (تونس والمغرب خصوصا). لم تنج من ذلك أي دولة، وربما ظلت ليبيا استثناء؛ لكون نظام معمر القذافي لم يول قطاع الصحة أهمية، فضلا عن فقر التكوين العلمي للأطباء واعتماده الريع لتشجيع التطبب في الخارج. كما ظلت الجزائر الدولة التي ترفع إنفاقها أكثر من غيرها على قطاع الصحة، لكن التكوين والبنية التحتية ظلا متقادميْن نسبيا. لا تخصص المغرب والجزائر وتونس (كل على حدة) سوى 5% من ميزانيتها العمومية للصحة، وقد سجلت الجزائر التراجع الأكبر، مقارنة مثلا بسنتي 2011 و2012 اللتين سجلتا أعلى النسب، حيث بلغت آنذاك 13%، وقد يكون ذلك لتراجع أثمان النفط في السنوات الأخيرة والإنفاق العسكري المتعاظم. وفي تونس، أبانت مأساة وفاة 12 رضيعا في قسم الخدّج في مستشفى عمومي السنة الفارطة عن أزمة عميقة تهزّ قطاع الصحة العمومي، فضلا عن لوبيات الفساد التي نخرته. ولم ينج القطاع الخاص من هذه الجرائم (اللوالب الطبية الفاسدة). وكانت البلاد قد راهنت، مند استقلالها، على قطاعي التربية والصحة، وحازت بذلك سمعةً طيبةً في محيطيها، العربي والأفريقي. وهي التي ظلت، على الرغم من شحّ الموارد، تسجل المرتبة الأولى في تقديم الرعاية الصحية لمواطنيها، حسب منظمة الصحة العالمية، مقارنة بنظيراتها من دول المغرب العربي.
السمة الثانية للأزمة التي عرّاها فيروس كورونا غياب العدالة الصحية بين الجهات الداخلية 
والحواضر المبجلة (العاصمة أو كبريات المدن)، إذ تظل دواخل البلاد في معظم البلدان المغاربية محرومة من أطباء الاختصاص (في هذه الحالة أطباء الأوبئة، أطباء الأمراض التنفسية..) فضلا عن مخابر التحليل. انحصرت في تونس مثلا مخابر التحليل في أربع مدن ساحلية، حيث توجد حصريا كليات الطب والمستشفيات الجامعية. ولا يختلف الأمر كثيرا في باقي دول المغرب العربي. كما شملت اللاعدالة أيضا الفئات التي ظلت غير متساوية أمام الوباء، حيث تظل الفئات الفقيرة أكثر عرضةً لكل هذه المخاطر، أما الفئات الميسورة فقد تحصنت بما لديها من إمكانات مادية في أثناء الحجْر الصحي هذا الذي ضيق على فئات الفقراء معاشهم ورماهم إلى الخصاصة، ولولا الحملات التضامنية التي أبدتها السلطات العمومية والمجتمع المدني، في تونس والمغرب بشكل خاص، لأمات الجوع والفقر فئاتٍ لن يقدر عليها الفيروس بمفرده.
السمة الثالثة التي فضحها فيروس كورونا في أنظمة الصحة في دول المغرب العربي قلة الإمكانات والموارد المادية والبشرية، بحكم الإهمال الذي استمرّ عقودا. وكانت تونس قد حققت "فائضا" من الأطباء، بعد أن باشرت، منذ الستينيات، تشييد كليات الطب والصيدلة، حتى أدّى 
ذلك، للأسف، إلى بطالة عشرات آلافٍ لم تستطع الحكومة انتدابهم، ما أطلق موجات هجرة مكثفة غير مسبوقة بعد الثورة نحو وجهاتٍ عديدة، دول الخليج العربي وأوروبا وحتى أميركا، وهم يحظون بسمعةٍ عالميةٍ لجودة تأهيلهم. وظل المغرب تقريبا على هذه الحالة، في حين كان النقص الفادح في ليبيا، سواء في ما يتعلق بالموارد البشرية (كوادر طبية وشبه طبية أو بني تحتية). لم تستطع هذه البلدان مواجهة وباء كورونا بالنجاعة القصوى، ففي تونس وجدت وزارة الصحة عسرا في توفير مستلزمات الوقاية للطواقم الطبية العاملة (كمّامات، مواد تعقيم، أجهزة تنفس اصطناعية..)، ما عمّق المخاطر التي تواجه هذا الجيش الأبيض. ويبدو أن تدابير اتخذت للتحكم في ما هو متاح قد بدأت تأتي أكلها في الأيام القليلة الماضية. وتبدو نسب الإصابات والوفيات متفاوتة بين هذه الدول (سجلت الجزائر العدد الأكبر)، لاعتبارات عديدة، لعل أهمها درجة التزام المواطنين بالإجراءات الوقائية المتخذة، وتوفر إمكانيات الإحاطة الطبية بالمرضى.
لا يستطيع وباء كورونا أن يقدّم دروسه إلى البلدان، إلا إذا استطاعت هي أن تستوعب الدرس، وتمر مباشرة لاتخاذ الإجراءات التي تضع حدا لفشلها. سيكون من المهم، إلى جانب تدارك كل تلك النقائص، وفي مقدمتها إعادة الاعتبار إلى قطاع الصحة العمومية والتكوين والاستثمار في البحث العلمي، فضلا عن تحديث البنية التحتية، بما يقتضي إعادة ترتيب الأولويات، إيجاد شكلٍ من المقاربة الجماعية الجديدة التي تقرّب السياسات الوطنية لبعضها بعضا، من أجل دمجها في إطار مغاربي أشمل، تتكامل فيه السياسات، وتتوزع فيها الموارد والإمكانات بشكل متوازن.
لا تلقي الأوبئة الدروس، ولكن علينا استخلاصها، حتى لا تتكرر الأخطاء. قد تكون العقود القائمة عقود عودة الأوبئة، وقد تبيّن أن درجات التضامن بين الدول لم ترتقِ إلى مستوى المخاطر المحدقة. قيل قديما ما حكّ جلدك إلا ظفرك. ويبدو أن هذه الجلدة هي جلدتنا المغاربية التي إن تألمت منها خلية، تداعى لها الجميع بالوقاية والعلاج.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.