عندما نصير آباءً لآبائنا

27 أكتوبر 2018
الغد آتٍ لا مُحال (سرجان كوجوك شاهين/ الأناضول)
+ الخط -

الطبيعة صريحة واضحة. من يمنح الحياة يضطلع بالمسؤوليّة... مسؤوليّة هؤلاء الذين أتى بهم إلى عالمه. هو عالم لم يختاروه مثلما لم يختره هو مِن قبلهم، إلا أنّ الجميع وجد نفسه فيه على حين غفلة. "الاختيار" فكرة تستحقّ التطرّق إليها، غير أنّها خارج السياق هنا.

نعود إلى المسؤوليّة. إلى جانب تأمين الغذاء والأمان والحماية والدعم الماديّ وكذلك المعنويّ والتعليم وما إليها، باختصار الحياة الكريمة، لا بدّ من أن يؤدّي هؤلاء دورهم في دمج أبنائهم في المجتمع والسهر على صحّتهم الجسديّة والنفسيّة ورفاههم ونموّهم السليم عموماً. كلّ ذلك في بيئة من التفاهم والعطف والسعادة. هذا ما تقتضيه الطبيعة وقوانينها.

ويكبر الأبناء وينطلقون في الحياة، كلّ بحسب ظروفه. هي ظروف هيّأ لها الآباء بمعظمها، بطرق تختلف طبيعتها. "الظروف" كذلك تستأهل التوقّف عندها، غير أنّها ليست في صلب الموضوع هنا. ويمضي كلّ واحد من هؤلاء الأبناء في طريقه. في واحدة من محطّات ذلك الطريق، ربّما يمنح الحياة لآخرين وربّما لا يفعل.

وعلى حين غفلة منهم، من كثيرين منهم تلافياً للتعميم، تنقلب الأدوار. فيجد الأبناء أنفسهم أولياء أمور هؤلاء الذين منحوهم الحياة في يوم. يرتبكون. لا بدّ من أن يضطلعوا بمسؤوليّة ألقوها بأنفسهم على عاتقهم. هم مدينون لآبائهم. مدينون لهم بوجودهم قبل كلّ شيء، وإن لم يكن ذلك الوجود خياراً لهم. تنقلب الأدوار، ويصير الآباء قاصرين، في حاجة إلى من يمسك بأيديهم ويقودهم، إمّا إلى قلب المجتمع الذي سبق ودمجوا فيه أبناءهم في زمن مضى، وإمّا إلى الحياة. كأنّما هؤلاء صاروا على هامشها، ولو أنّهم ما زالوا نشطين ولو أنّهم لم يبلغوا سنّ التقاعد القانونيّة بعد.

لا شكّ في أنّ بعض الأبناء ما زال يذكر كيف كان الوالدان، أو أحدهما، يتحايلان عليه ليتناول دواءً أو لينهي وجبة أو ليجتهد في دروسه. اليوم، ثمّة من يحاول التحايل على والدَيه أو أحدهما ليزورا الطبيب ويلتزما بتعليماته وما إلى ذلك. بعض الأبناء كذلك، لا ينسى كم مِن مرّة تدخّل والداه علّهما يحلّان مشكلات واجَهها وتهدّدته مذ كان طفلاً صغيراً أو مراهقاً أو حتى شاباً. واليوم، ثمّة من يحاول ردّ الجميل عبر تقديم السند لهما. صحيح أنّهما راشدان ومسؤولان عن أفعالهما، إلا أنّهما يحتاجان إلى الأبناء. لا بدّ من أنّهما كذلك، مثلما كان هؤلاء في حاجة إليهما في زمن مضى. هذا واجب الأبناء تجاه الذين منحوهم الحياة.




ربّما يكون الأمر بعيداً عن ردّ الجميل وعن الديون المتراكمة، وقد أبصر الأبناء في هؤلاء الآباء هشاشة لم يعهدوها في الزمن الذي مضى. وتمسّهم تلك الهشاشة في الصميم، لا سيّما وأنّها تعكّر الصورة بمجملها. من جهة يرون أنفسهم شبه عاجزين عن التعرّف إليهم، ومن أخرى يخشون على أنفسهم... في ذلك الآتي لا مُحال.
المساهمون