تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الخامس والعشرون من نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاد المخرج السينمائي المصري علي بدرخان (1946).
لا تقع عيني على قائمة الأفلام التي أخرجها علي بدرخان إلا وتثير في نفسي مشاعر وأسئلة متداخلة؛ أولاً للعلاقة النفسية التي تربطني بمشاهد كثيرة في أفلام مثل: "الكرنك" (1975)، و"شفيقة ومتولي" (1978)، و"أهل القمة" (1981)، و"الجوع" (1986)، و"الراعي والنساء" (1991)، ولكن الأكثر إثارة بالنسبة لي هو "لغز" انحسار هذه الأعمال في عقد ونصف من الزمن، فما كان خارج هذا الحيّز وكأنه "خارج نطاق التصوير" بعبارة تقنية سينمائية.
أتساءل: ما الذي أهدرته ثقافتنا حين يتوقّف مخرجٌ مثل علي بدرخان؟ هذا سؤال يحيّرني، خصوصاً حين أشاهد تقييمات لتجربة إخراجية موازية فيقول المتحدّثون عما كان يمكن أن تصله سينما عاطف الطيّب لو أن الموت لم يعاجله، فأجد في سينما بدرخان وضعية أكثر إشكالية، فالمخرج الذي بدا مكتمل الصنعة والرؤية منذ فيلمه الأول كأنه قرّر الانسحاب بصمت، على الرغم من حضوره من حين لآخر في أشرطة وثائقية وشهادات ودعم للمخرجين الشبان ناصحاً ومؤطّراً، ليبدو محافظاً على نفس وعيه العميق وأناقة أفكاره وجمال روحه وطرافة مخيّلته ولغته، أطال الله في أنفاسه.
بدرخان مثله مثل حسام الدين مصطفى أو سمير سيف أو محمد خان، هؤلاء أبطال الواقعية الجديدة، والتي أفضّل أن أسمّيها اليوم بالواقعية اللذيذة، كل واحد من هؤلاء يبدو من خلال أفلامه في الثمانينات وكأنه ليس هو بعد ذلك. فماذا حدث للسينما المصرية بعد ذلك؟
بدرخان بالذات، بدت كل الظروف مهيّأة ليرث كل ما في تاريخ السينما، المصرية والعالمية، بحكم تكوينه واختلاطه المبكّر بعوالم السينما، وبالدوائر الثقافية عامة. أفلامه القليلة يحمل كل واحد منها حكاية مشتبكة بحياته، أذكر مثلاً شهادته عن استمتاعه بفترة اعتقال قصيرة في السبعينيات على خلفية أنها ساعدته على التعمّق في مناخات فيلم "الكرنك".
ربما كان هناك أثر لغياب سعاد حسني عن التمثيل بعد فيلمها الأخير "الراعي والنساء"، وهي التي كانت حاضرة في جميع روائعه. وفي جميع المشاهد التي حضرت فيها كان هناك حنوّ خاص في الكاميرا التي تصوّرها، غيابها أثّر بالتأكيد على ثوابت عوالم بدرخان التخييلية، خصوصاً مع حالة الاندماج الغريب التي تصلها أفلامه مع مآسي الشخصيات التي تؤديها سعاد حسني، مآس كأنها كانت تسرد شيئاً من سيرتها وصولاً إلى المأساة الختامية لحياتها الشخصية، والتي كانت مرحلة النضج الفني والنجاح المطلق متقاطعة مع سنوات زواجها من بدرخان.
تتعدّد الأسباب والنتيجة واحدة. هناك عالم بأسره قد اندثر. شيء ما داخله قد توقّف. شيء ما في الهواء أو في المزاج العام أو في الضمائر. سرّ تبخّر دون رجعة. فُقدَ حتى ذلك الدور الذي كانت تلعبه السينما في تلبية إشباعات ذوقية وعاطفية وقومية. كيف ماتت تلك "الحواديت" التي تخرج مرّة من رواية لنجيب محفوظ ومرّة من قصاصة في جريدة، وكيف انطفأ ينبوع التدفّق السينمائي. شيء ساحر بسيط كان يعبُر تلك الأفلام، واختفى. لو أني التقيت علي بردخان كنتُ سأتبعه مثلما يفعل مريدو المتصوّفة مع شيوخهم، عسى أن أفهم شيئاً عن ذلك السرّ الذي اختفى.