14 نوفمبر 2024
علي الشوك.. وسيرة العشق
موضوع الحب هو ذلك الموضوع الأثير في أغلب كتابات العراقي المرتحل، علي الشوك. الحب هو العمود الفقري لتلك الكتابة عن السيرة، والمرأة هي الرياح السحرية التي تحرّك مركبها. كتابة البحث والارتحال والعشق، ثم البكاء على حلم الشيوعية المسكوب. هي سيرة طاعن في السن، تجاوز الثمانين، ويحدق من قريب في أبواب التسعين، بعدما وهن الجسد وبعُدت بغداد بعدما غربت الأحلام، رحمه الله. ولم يعد لا للموسيقى ولا للفيزياء ولا للرياضيات ذلك السحر القديم. وحدها الكتابة هي السلوى والسعي وراء "الرواية"، تلك الفاتنة التي ظل علي الشوك يحلم بكتابتها، ولكنه ظل سنوات مزدحما بألف شيء، حتى تقاتلت الأشياء فيه. وأخيرا انتصرت الكتابة: أنا أريد أن أتحدث عن مليون شيء، لكنني لم أعد أمتلك نَفَسا طويلا.
نحن أمام سيرة رجل من الطبقة الوسطى البغدادية، حلت بغداد من أكثر من ثلاثة قرون من تركيا، وكانت تمتلك المزارع والبساتين والأسرار والمتع، وقد كتمت السيرة أكثر مما باحت به احتراما للأصحاب والقرابة ونُبل المحبة ذاتها "ما أكتمه هو أكثر بكثير مما أبوح به".
كأغلب اليساريين العراقيين، ذاق علي الشوك السجن سنتين، والاعتقال فترتين قليلتين من سلطات "البعث"، وخرج من التجربة بحكمة أنه لم يعد له في العراق سوى ذكرياته وزوجته وبيته والخيبات، فترك البلاد باحثا عن بقية فصول حكاياته، وكانت من التهمة المضحكة التي ألصقوها به كي يتم سجنه، وقد كان يعمل موظفا كبيرا في التربية والتعليم، ولم يكتفوا بتوجيه التهمة، بل نشروها في الجريدة الرسمية: "علي الشوك يسرق أسئلة الامتحانات الوزارية، ويبيع السؤال الواحد بمبلغ خمسة دنانير في ساحة التحرير". تهمة تلصق بعمال البوفيه في كنترولات الثانوية العامة، لا بموظف كبير درس الرياضيات في أميركا ويعزف البيانو، وله جهود في الكتابة عن الموسيقى، وابن أسرة ثرية كانت تمتلك مئات الأفدنة في وسط بغداد. تهمة عراقية تذكّرنا بخفة دم العراقي، بعدما انعدمت هذه الخفة تماما الآن في معظم بلادنا العربية، وتهمها الجاهزة.
ويسرد علي الشوك في سيرته بعد الاعتقال: "سأذكر حادثا من أيام التدريس.. . كان في مؤخرة الصف طالبان يثرثران، بينما كنت أنا ألقي الدرس. أحدهما كان أخ مظفر النوّاب، وكان هذا جالسا إلى جوار طالب آخر كان يلغو معه، فزجرت هذا الطالب، وامتثل. ثم لما انتهى الدرس وخرجت، هرول أخو مظفر في أثري، واقترب مني، ثم قال: هل تعلم أشياء عن هذا الطالب الذي زجرته؟ من هو؟ قلت له. إنه ابن رئيس الجمهورية عبد الرحمن محمد عارف.. صحيح؟ قل له يوصل احترامي لأبيه. .. في ضوء ذلك، كم كنت أتمنى لو استمر حكم أبيه".
علاوة على أن ما يزيد هذه السيرة تشويقا دربة علي الشوك، المهتم بالموسيقى والنوتة، بكتب التراث وسراديبها المنفتحة على اللهو والحياة والعبث والملوك ونوادرهم، وخصوصا كتاب "الأغاني"، علاوة بالطبع على إيغالاته في أصول الكلمات والأساطير والاشتقاقات. وله كتابات جميلة نشرها على مدار سنوات في مجلة الكرمل، وتحدث في سيرته عن ذلك باستفاضة، وخصوصا تجربه عمله في مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، وكيف ساندته خلال غربته. أما مرارة العودة إلى العراق في زمن صدام في مهرجان المربد، لضرورة أن يرى زوجته وبنته وبقيه أصدقاء روحه، فهذا يحتاج كتابا خاصا، لمرارته وواقعيته الصعبة.
وفي مرارة النهايات، يسرد علي الشوك في سيرته قبل رحيله بقليل: "أنا الآن في السادسة والثمانين من العمر، ولم أعد أشعر برغبة في مواصلة الحياة، بعدما تدهورت قواي الجسدية، وبعد فقدان كل مجايلي، باستثناء غانم حمدون الذي أراد أن يُنهي علاقته بي، لأنه لم يعد ينسجم مع أفكاري"... "لم يعد أحد يهمني باستثناء ابنتي زينب، وهناء، ونوري السعيد، الذي غيّبه الموت من أكثر من عشر سنوات". وتظل هناء هي جوهرة السيرة كلها ومركبها، وهي سر أسرار علي الشوك.
نحن أمام سيرة رجل من الطبقة الوسطى البغدادية، حلت بغداد من أكثر من ثلاثة قرون من تركيا، وكانت تمتلك المزارع والبساتين والأسرار والمتع، وقد كتمت السيرة أكثر مما باحت به احتراما للأصحاب والقرابة ونُبل المحبة ذاتها "ما أكتمه هو أكثر بكثير مما أبوح به".
كأغلب اليساريين العراقيين، ذاق علي الشوك السجن سنتين، والاعتقال فترتين قليلتين من سلطات "البعث"، وخرج من التجربة بحكمة أنه لم يعد له في العراق سوى ذكرياته وزوجته وبيته والخيبات، فترك البلاد باحثا عن بقية فصول حكاياته، وكانت من التهمة المضحكة التي ألصقوها به كي يتم سجنه، وقد كان يعمل موظفا كبيرا في التربية والتعليم، ولم يكتفوا بتوجيه التهمة، بل نشروها في الجريدة الرسمية: "علي الشوك يسرق أسئلة الامتحانات الوزارية، ويبيع السؤال الواحد بمبلغ خمسة دنانير في ساحة التحرير". تهمة تلصق بعمال البوفيه في كنترولات الثانوية العامة، لا بموظف كبير درس الرياضيات في أميركا ويعزف البيانو، وله جهود في الكتابة عن الموسيقى، وابن أسرة ثرية كانت تمتلك مئات الأفدنة في وسط بغداد. تهمة عراقية تذكّرنا بخفة دم العراقي، بعدما انعدمت هذه الخفة تماما الآن في معظم بلادنا العربية، وتهمها الجاهزة.
ويسرد علي الشوك في سيرته بعد الاعتقال: "سأذكر حادثا من أيام التدريس.. . كان في مؤخرة الصف طالبان يثرثران، بينما كنت أنا ألقي الدرس. أحدهما كان أخ مظفر النوّاب، وكان هذا جالسا إلى جوار طالب آخر كان يلغو معه، فزجرت هذا الطالب، وامتثل. ثم لما انتهى الدرس وخرجت، هرول أخو مظفر في أثري، واقترب مني، ثم قال: هل تعلم أشياء عن هذا الطالب الذي زجرته؟ من هو؟ قلت له. إنه ابن رئيس الجمهورية عبد الرحمن محمد عارف.. صحيح؟ قل له يوصل احترامي لأبيه. .. في ضوء ذلك، كم كنت أتمنى لو استمر حكم أبيه".
علاوة على أن ما يزيد هذه السيرة تشويقا دربة علي الشوك، المهتم بالموسيقى والنوتة، بكتب التراث وسراديبها المنفتحة على اللهو والحياة والعبث والملوك ونوادرهم، وخصوصا كتاب "الأغاني"، علاوة بالطبع على إيغالاته في أصول الكلمات والأساطير والاشتقاقات. وله كتابات جميلة نشرها على مدار سنوات في مجلة الكرمل، وتحدث في سيرته عن ذلك باستفاضة، وخصوصا تجربه عمله في مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، وكيف ساندته خلال غربته. أما مرارة العودة إلى العراق في زمن صدام في مهرجان المربد، لضرورة أن يرى زوجته وبنته وبقيه أصدقاء روحه، فهذا يحتاج كتابا خاصا، لمرارته وواقعيته الصعبة.
وفي مرارة النهايات، يسرد علي الشوك في سيرته قبل رحيله بقليل: "أنا الآن في السادسة والثمانين من العمر، ولم أعد أشعر برغبة في مواصلة الحياة، بعدما تدهورت قواي الجسدية، وبعد فقدان كل مجايلي، باستثناء غانم حمدون الذي أراد أن يُنهي علاقته بي، لأنه لم يعد ينسجم مع أفكاري"... "لم يعد أحد يهمني باستثناء ابنتي زينب، وهناء، ونوري السعيد، الذي غيّبه الموت من أكثر من عشر سنوات". وتظل هناء هي جوهرة السيرة كلها ومركبها، وهي سر أسرار علي الشوك.