على دروب الخلاص

15 سبتمبر 2020
+ الخط -

(1)

حملت نشرة الأخبار في إذاعة بي بي سي صبيحة الأحد 16 أغسطس/آب الماضي، العناوين التالية: (تظاهرات حاشدة في بيلاروسيا تنادي بإسقاط الرئيس وتتهمه بتزوير الانتخابات - مظاهرات في تايلاند تطالب بدستور جديد للنظام الملكي وحل البرلمان - احتجاجات واسعة في زيمبابوي وكوريا الجنوبية).

غير بعيد من نشرة بي بي سي، تتواصل في الولايات المتحدة المظاهرات المنددة بالعنصرية وعنف الشرطة تجاه المواطنين السود، في حين ترى المسيرات الشعبية في السودان في موج ثوري لا يهمد.

واقع الأمر أن الاحتجاجات الجماهيرية حول العالم تزايدت بنسبة سنوية تبلغ 11٪ في الفترة 2009 - 2019 ليشهد العام المنصرم تظاهرات مناوئة للسلطات في 114 دولة (the age of mass protest, 2020). بطبيعة الحال، عرف الناس الاحتجاج بشتى سبله منذ خبروا السلطة، إلا أن ما نشهده مؤخرًا غير مسبوق في التاريخ من حيث سعة الاحتجاجات، وعدد المشاركين فيها والوعي السياسي المصاحب لها (المصدر نفسه).

اللافت أن رقعة الاحتجاجات الشعبية لا تحددها الطبيعة السياسية للسلطة القائمة، فقد شملت أنظمة ديكتاتورية، وديمقراطية ليبرالية، ودستورية ملكية على حد سواء، كما شملت دولًا غنية وأخرى فقيرة، مما يجعل تلك الاحتجاجات واتساعها سمة سياسية مميزة لهذا العصر بحق.

(2)

رغم خصوصية كل دولة إلا أن أسبابًا مشتركة تُشعل هذه (الغضبة العالمية) تجاه السلطة: بطء نمو الاقتصاد العالمي، ارتفاع البطالة والبطالة المقنعة وسط الشباب، الشعور الطاغي بفساد النخب الحاكمة، التحولات الديمغرافية الناتجة من تغيرات المناخ وطبيعة الاقتصاد، إضافة إلى تدخلات الدول في شؤون بعضها الداخلية (المصدر نفسه).

لا أحد يعلم أي اتجاه سنسلك، إلا أن الأكيد، أن دروب الخلاص لا تمر عبر الطرق التقليدية الموصوفة يمينًا ويسارًا، بل تحتاج مسارًا خارج نطاق المفكر فيه اليوم، يرجو المرء أن يكون مسارًا أكثر إنسانية ورحمة

لعل الداء العضال الذي يوحد هذه العوامل جميعها هو النظام الاقتصادي "العالمي" الذي تستحوذ فيه قلة على ثروات هائلة جانية أغلب ثمار ما حققته الإنسانية من نماء. على سبيل المثال، يستحوذ أثرى 0.1% شخص في العالم على دخل يوازي ال 50% الأفقر. من الراجح أن انكماش الاقتصاد العالمي بفعل وباء الكورونا سيفاقم من اللامساواة الاقتصادية ويضاعف غياب العدالة الاجتماعية تاركًا بلايين البشر في بحور المعاناة والضنك.

(3)

مظاهر السخط الشعبي حول العالم تتجاوز التظاهر ومحاولات إسقاط الأنظمة، ولا تأخذ في كل الأحيان منحى إيجابيًا. إذ نشهد، مثلاً، فقدانًا تامًا للثقة في النخب الحاكمة. في السودان، إدانة شاملة وواسعة لكل الطبقة السياسية بلا تمييز، وفي تونس رئيس يرى أن الديمقراطية لا تحتاج أحزابًا أو حتى ساسة، وفي الولايات المتحدة سجل مطلع العام 2020 أدنى نسبة ثقة في السياسيين في تاريخ البلاد الحديث. الإحصاءات في غرب أوروبا تقارب ذلك. وفي جنوب أفريقيا يهدد مؤتمر الاتحادات العمالية (كوساتو) بسحب الثقة والتأييد من الحزب الحاكم استجابة للسخط الشعبي المتزايد. ولعل أبلغ تعبير عن اليأس من النخب السياسية هو دعوة الثورة اللبنانية لإزاحتها بالكامل، حكمًا ومعارضة: "كلن يعني كلن".

أزمة الثقة هذه تتعدى الساسة لتشمل المؤسسات نفسها، بما فيها أجهزة الأمن، الإعلام والمجتمع المدني والمؤسسات المالية، بل تطاول حتى النظام الديمقراطي نفسه وقواعده، ويتجلى ذلك في ضعف نسب التصويت في بعض الديمقراطيات الغربية، والشك في نتائج الانتخابات فيه فلم تعد اتهامات التلاعب حصرًا على ديمقراطيات العالم الثالث. بلغ الأمر أن أبرز كتاب (اليسار) في الولايات المتحدة يحذرون من احتضار الديمقراطية فيها (توماس فريدمان و بول كروغمان، نيويورك تايمز العددان 18 أغسطس/آب و 9 أبريل/نيسان 2020 على التوالي). في حين يرى اليمين أن البلاد، وليس النظام وحده، على شفا الانهيار (how to destroy America in three easy steps, 2020).

بحثت الجماهير في غضبتها عن بدائل خارج المؤسسة السياسية التقليدية، فصعد اليمين الشعبوي إلى السلطة في عدة دول كالبرازيل والفيليبين، ليبلغ ذلك الصعود ذروة درامية بانتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة. 

(4)

إن أزمةً قلبها ترك النظام الاقتصادي لآليات السوق لتتحكم في توزيع الثروة بالكامل، وعنوانها استفحال اللامساواة وغياب العدالة الاجتماعية، كانت لتكون مسرحًا مثاليًا لليسار ليطرح أجندته. مع ذلك، في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أشاحت الجماهير، بما فيها العمال والفقراء، عن القائدين اليساريين ساندرز وكوربين فخسرا الانتخابات.

انحسار اليسار رغم وجود ظرف سياسي مواتٍ لأجندته أمر معقد التفسير، وتتراوح أسبابه بين الذاتي والموضوعي. اللجنة التي درست ظروف خسارة حزب العمال الانتخابات العامة في بريطانيا، وتصويت معظم قاعدته التقليدية لحزب المحافظين الذي تفوق على حزب العمل وسط منخفضي الدخل لأول مرة في التاريخ، رغم برامج المحافظين المؤذية لتلك القواعد، خلصت إلى عدة نتائج، أبرزها كانت أن العامة لم تصدق أن برنامج كوربين الطموح قابل للتطبيق، وأن إصلاحات كبرى في النظام الرأسمالي ممكنة الحصول (ايد ميليباند، الغارديان 18 يونيو/حزيران 2020).

(5)

الاحتجاجات الجماهيرية ضد السلطة، أي سلطة، بغض النظرة عن طبيعتها، هي سمة طاغية لعصرنا. انسداد أفق العدالة الاجتماعية هو وقود تلك الاحتجاجات والتي أصبحت بهذا الاتساع على أثر التوسع في التعليم، وسكن المدن، ومواقع التواصل الاجتماعي.

يضطرب العالم ويمضي مبحرًا في بحر التيه الذي يمور بتغييرات لا سابق لها، كما في قول غرامشي: (الأزمة تحديدًا هي في موت القديم وعجز الجديد أن يولد.. وهنا تظهر أعراض الانتقال وآلامه).

لا أحد يعلم أي اتجاه سنسلك، إلا أن الأكيد، أن دروب الخلاص لا تمر عبر الطرق التقليدية الموصوفة يمينًا ويسارًا، بل تحتاج مسارًا خارج نطاق المفكر فيه اليوم، يرجو المرء أن يكون مسارًا أكثر إنسانية ورحمة.