27 سبتمبر 2018
على المعارضة السورية الرحيل
مرّت ست سنوات ونصف السنة على انطلاق الثورة السورية. لا يبدو أننا وصلنا إلى لحظة اكتشاف نهاية لها. اعتبر كثيرون ممن شاركوا فيها أنها انتهت، وأن ما يجري صراعٌ مسلحٌ دموي، وظهر أن المجموعات السلفية هي التي تسيطر على المشهد "المضاد للنظام"، كما أن القتل والتدمير والتهجير الذي حدث أظهر ضخامة الكلفة التي ألمّت بسورية.
عوامل عديدة أفضت إلى هذه الوضعية. لا شك في ذلك، لكن بعد ست سنوات ونصف السنة لا بد من أن نتناول بـ "الجلد" المعارضة التي اعتبرت أنها ممثل الثورة، من دون أن يختارها أحد، حيث كانت عبئاً على الثورة، وأضرت بها كثيراً، بحيث يمكن أن نقول إنها أسهمت في إيصال الوضع إلى ما نحن فيه، سواء من ناحية تضخّم دور "السلفية الجهادية" والأصولية، أو بالوصول إلى تحكّم دول إقليمية وكبرى بالوضع، فقد كانت أزمة الثورة الأولى تتمثل في غياب القيادة الفعلية لها، وبالتالي تحكّم العفوية بها، ومن ثم قدرة النظام وحلفائه على التأثير في مساراتها، بما يخدم سياساته هو.
فأولاً، كان واضحاً الانفصال بين المعارضة والشعب، حيث كانت المعارضة غارقةً في همومها، وأزمتها بعد أن فرض استبداد السلطة وشموليتها تهميشها، نتيجة حملات اعتقال، طاولت كثيرين من كوادرها. لكن ما فرض الانفصال حتى حينما أصبحت هناك نافذة تركيزُها على هدفٍ وحيدٍ، هو الديمقراطية، بدا ردَّ فعلٍ على ما تعرّضت له من قمع، أو الصراع الغريزي مع النظام. وهو الأساس الذي شكّل كل سياساتها، وخصوصاً بعد الثورة. حيث محورت كل خطابها عن الحرية والكرامة، أو إسقاط النظام بالتدخل "الخارجي". وبهذا، لم تلتفت إلى الشارع، حيث كان يحتاج قيادة فعلية، وبلورة خطابٍ يعبّر عن مطالب الطبقات الشعبية كلها، ويضمن توحيدها كلها في وضعٍ كان يجري اللعب لتحقيق شرخ عميق بينها عبر استخدام التخويف الطائفي.
وثانياً، كان واضحاً رهانها على الخارج. لهذا عمل جزء مهم منها على نقل نشاط المعارضة
الذي يدّعي تمثيل الثورة إلى الخارج، وتشابك مع دول إقليمية وكبرى، على أمل أن تسقط هذه الدول النظام وتفرضها بديلاً عنه. وبهذا، سمحت بأن تخضع الثورة لمصالح تلك الدول وسياساتها وصراعاتها. وأن تكون أداة لهذا الخارج. راهنت وظلت تراهن على أن هذه الدول هي التي ستساعدها على إسقاط النظام واستلام السلطة. وبهذا، كان واضحاً أنها لا تفهم الواقع العالمي وتحولاته، ولا مصالح الدول التي تعتمد عليها، فقد اعتقدت أن أميركا تنتظر لحظة إسقاط النظام، ما جعلها تعتقد أنها سوف تتدخل مستغلة الثورة، وأنها ستأتي بها إلى السلطة. وإذا كانت مصالح دول، مثل قطر وتركيا وفرنسا، تتمثل في أن يكون بديل النظام خاضعاً لها، ولهذا شكّلت معارضة الخارج، فقد أفضى الفيتو الأميركي إلى فشل هذا الخيار، ومن ثم الى تغيّر مصالح هذه الدول. ومن ثم إلى بحث هذه المعارضة عن دعم دول، فيما هذه الدول متنافرة أصلاً.
وثالثاً، كانت تستعجل التسلح بلا حساب، ودفعت إلى سياسة عسكرية مضرّة من خلال ما أُطلق عليه سياسة التحرير في وضع مختلّ كثيراً لمصلحة النظام، وما كان يوازن ميزان القوى ويغيره هو القوة الشعبية، وليس القوة العسكرية، وهي التي أدت سياسة التحرير إلى تفكيكها، عبر الرد الوحشي الذي قام به النظام، بتدمير كل المناطق التي ثارت، ما أفضى إلى تهجير هائل، ومن ثم حصار المقاتلين في مناطق منعزلة، أفضت إلى استسلام كثير منها. كانت خطة النظام واضحة، وتقوم على محاصرة المناطق المتمردة مقدمة لإخضاعها، وكان يبدو أن بساطة المقاتلين، أو غباء أطراف المعارضة، يوصل إلى ما يريد النظام.
ورابعاً، عملت بعض أطرافها، وخصوصاً هنا جماعة الإخوان المسلمين، على أسلمة الثورة، على الرغم من شعارات الشباب الذي كان يخوضها التي أعلنت "لا سلفية ولا إخوان، الثورة ثورة شبان"، حيث كانت تعتقد أنه لا دور لها من دون أن تتحوّل الثورة إلى حراك "إسلامي"، يجعلها هي قيادته. ولقد ساعدها على ذلك علاقاتها الإقليمية التي سمحت لها بأن تمتلك قنواتٍ فضائية، وميل النظام من طرف والدول الإقليمية من طرف آخر إلى أسلمة الثورة. وربما كان هذا أخطر ما حدث منذ بدء الثورة، وجرت رعايته من أطراف متعدّدة، بالضبط لأنها تريد إجهاض الثورة، وتحويلها إلى صراع طائفي.
إذن، يمكن القول إن كل طرف في المعارضة كان ينطلق من منظور ذاتي، ويحاول استغلال الثورة لتحقيق مصالح ذاتية، بعيداً عما أراده الشعب الذي ثار يريد إسقاط النظام، فقد عمل بعضها على استغلال الثورة من أجل تحقيق "الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية"، وكان بعضها ينطلق من صراع غريزي، يريد الاقتصاص من النظام الذي سحقه أو ظلمه، حتى وإنْ تحقق ذلك بالتدخل الخارجي، أو تدمير البلد. وكثيرون ممن ادّعوا المعارضة كانوا يعتقدون أن النظام آيل إلى السقوط السريع، وعليه أن يحجز مقعداً في السلطة الجديدة، وهو أصلاً لا يعرف مشكلات الشعب، ولا يفكّر بها. وأيضاً كان هناك من يمتلك أوهاماً كثيرة عن التغيير والعالم والبديل.
الآن، لم يكن ذلك كله بعيداً عن التأثير في مسار الثورة، بل أنه أثّر بشكل مباشر فيها، وأوجد تعقيدات، وأضراراً، أسهمت في وصول الوضع إلى ما نحن فيه. وإذا كانت الثورة قد تُركت للعفوية، خصوصاً بعد أن عمل النظام على تصفية التنسيقيات التي ضمت فئاتٍ شبابيةً وناشطين لديهم قدر من الفهم السياسي، وحاول استثارة غرائز الفئات الشعبية، عبر أشكال مختلفة من الاستفزاز والوحشية، فقد شكّلت المعارضة عبئاً ثقيلاً على الثورة، وأضرّت بها في مختلف مراحلها. ويمكن توضيح ذلك في ثلاثة مستويات:
أولاً، إذا كانت الثورة قد توسعت ببطء، وأخذت سنة لكي تشمل كل سورية، حيث ظهر أن
هناك فئة كبيرة متردّدة، سنلمس كيف أن النظام كان يلعب على هذا التردّد، حيث أصرّ على أن ما يجري هو من فعل مجموعات أصولية سلفية إخوانية إرهابية. هذا هو خطاب النظام الذي وجد ما يقابله فيما تسمى المعارضة، حيث ظهرت شخصيات معروفة بتكفير العلويين والأقليات، وبالدعوة الأصولية المغرقة، ادّعت أنها المعبّر عن الثورة، وكانت تلقى تجاوباً من أطراف معارضة، وحتى من شباب يتظاهر. كذلك كانت تسميات أيام الجمعة تصبّ في المحور ذاته، وأيضاً التغطية الإعلامية لبعض القنوات التي كانت تعبّر عن جماعة الإخوان المسلمين وعدنان العرعور. كما كانت الدعوات من أطراف معارضة إلى التدخل الأميركي تثير الخوف الشعبي، بعد أن كان الشعب السوري قد لمس نتائج التدخل الأميركي في العراق.
كل هذا التأخير في توسّع الثورة نتيجة ذلك كان يعطي النظام الفرصة للتماسك، والتخطيط لمواجهة الثورة، والتحكّم في مسار الصراع. لهذا ظل متماسكاً سنة وتسعة أشهر، فظل قادراً على ضبط تمرّد الجيش، ومنع تفكك السلطة، بينما كان هذا الزمن مهماً في سياق إسقاط النظام، وكان التأخر مضرّاً بالثورة، كونها بلا قيادة فعلية ولا إستراتيجية. وهذا ما ظهر في المرحلة التالية.
ثانياً، كان الشغل "الخارجي" على الأسلمة والتسليح يسمح باللعب بالفصائل المسلحة التي باتت تحتاج المال والسلاح. وقد ظهر خطر الأسلمة جلياً، بعد أن بدأ النظام خطته، لتشكيل مجموعات سلفية إرهابية، حيث أطلق سراح "جهاديين" معتقلين، وأخذ ينفّذ خطة تشكيل فرع لتنظيم القاعدة، ثم "داعش". فقد أسهمت الأسلمة في إيجاد بيئة قابلة بهذا الوجود، ومهيئة لتقبّل مجموعاتٍ تأتي من الخارج. خصوصاً أن أطرافاً متعدّدة في المعارضة الخارجية رحبت بـهذا الوجود وأيدته ودعمته. وبهذا، أصبحت المجموعات الأصولية القوة الأكبر، سواء تعلق الأمر بـ "داعش" وجبهة النصرة أو حتى المجموعات الأخرى التي لا تختلف عنها كثيراً. لقد وُجدت هذه المجموعات ونمت تحت غطاء معارضة عاجزة تنتظر من يوصلها الى السلطة.
وأخيراً، أفضى ذلك الى أن تتحكم "الدول الداعمة" بالقرار، وأن تحدّد أدوار القوى، وتكتيكاتها، وأن تستخدمها في سياساتها، بما يخدم مصالحها هي ضداً على الثورة. وكما يبدو، سيكون الحل في مصلحة روسيا بتوافق كل هذه الدول "الداعمة"، فهي كلها تركض للتفاهم معها.
أخفقت المعارضة السورية، وأضرّت، وعليها الرحيل.
عوامل عديدة أفضت إلى هذه الوضعية. لا شك في ذلك، لكن بعد ست سنوات ونصف السنة لا بد من أن نتناول بـ "الجلد" المعارضة التي اعتبرت أنها ممثل الثورة، من دون أن يختارها أحد، حيث كانت عبئاً على الثورة، وأضرت بها كثيراً، بحيث يمكن أن نقول إنها أسهمت في إيصال الوضع إلى ما نحن فيه، سواء من ناحية تضخّم دور "السلفية الجهادية" والأصولية، أو بالوصول إلى تحكّم دول إقليمية وكبرى بالوضع، فقد كانت أزمة الثورة الأولى تتمثل في غياب القيادة الفعلية لها، وبالتالي تحكّم العفوية بها، ومن ثم قدرة النظام وحلفائه على التأثير في مساراتها، بما يخدم سياساته هو.
فأولاً، كان واضحاً الانفصال بين المعارضة والشعب، حيث كانت المعارضة غارقةً في همومها، وأزمتها بعد أن فرض استبداد السلطة وشموليتها تهميشها، نتيجة حملات اعتقال، طاولت كثيرين من كوادرها. لكن ما فرض الانفصال حتى حينما أصبحت هناك نافذة تركيزُها على هدفٍ وحيدٍ، هو الديمقراطية، بدا ردَّ فعلٍ على ما تعرّضت له من قمع، أو الصراع الغريزي مع النظام. وهو الأساس الذي شكّل كل سياساتها، وخصوصاً بعد الثورة. حيث محورت كل خطابها عن الحرية والكرامة، أو إسقاط النظام بالتدخل "الخارجي". وبهذا، لم تلتفت إلى الشارع، حيث كان يحتاج قيادة فعلية، وبلورة خطابٍ يعبّر عن مطالب الطبقات الشعبية كلها، ويضمن توحيدها كلها في وضعٍ كان يجري اللعب لتحقيق شرخ عميق بينها عبر استخدام التخويف الطائفي.
وثانياً، كان واضحاً رهانها على الخارج. لهذا عمل جزء مهم منها على نقل نشاط المعارضة
وثالثاً، كانت تستعجل التسلح بلا حساب، ودفعت إلى سياسة عسكرية مضرّة من خلال ما أُطلق عليه سياسة التحرير في وضع مختلّ كثيراً لمصلحة النظام، وما كان يوازن ميزان القوى ويغيره هو القوة الشعبية، وليس القوة العسكرية، وهي التي أدت سياسة التحرير إلى تفكيكها، عبر الرد الوحشي الذي قام به النظام، بتدمير كل المناطق التي ثارت، ما أفضى إلى تهجير هائل، ومن ثم حصار المقاتلين في مناطق منعزلة، أفضت إلى استسلام كثير منها. كانت خطة النظام واضحة، وتقوم على محاصرة المناطق المتمردة مقدمة لإخضاعها، وكان يبدو أن بساطة المقاتلين، أو غباء أطراف المعارضة، يوصل إلى ما يريد النظام.
ورابعاً، عملت بعض أطرافها، وخصوصاً هنا جماعة الإخوان المسلمين، على أسلمة الثورة، على الرغم من شعارات الشباب الذي كان يخوضها التي أعلنت "لا سلفية ولا إخوان، الثورة ثورة شبان"، حيث كانت تعتقد أنه لا دور لها من دون أن تتحوّل الثورة إلى حراك "إسلامي"، يجعلها هي قيادته. ولقد ساعدها على ذلك علاقاتها الإقليمية التي سمحت لها بأن تمتلك قنواتٍ فضائية، وميل النظام من طرف والدول الإقليمية من طرف آخر إلى أسلمة الثورة. وربما كان هذا أخطر ما حدث منذ بدء الثورة، وجرت رعايته من أطراف متعدّدة، بالضبط لأنها تريد إجهاض الثورة، وتحويلها إلى صراع طائفي.
إذن، يمكن القول إن كل طرف في المعارضة كان ينطلق من منظور ذاتي، ويحاول استغلال الثورة لتحقيق مصالح ذاتية، بعيداً عما أراده الشعب الذي ثار يريد إسقاط النظام، فقد عمل بعضها على استغلال الثورة من أجل تحقيق "الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية"، وكان بعضها ينطلق من صراع غريزي، يريد الاقتصاص من النظام الذي سحقه أو ظلمه، حتى وإنْ تحقق ذلك بالتدخل الخارجي، أو تدمير البلد. وكثيرون ممن ادّعوا المعارضة كانوا يعتقدون أن النظام آيل إلى السقوط السريع، وعليه أن يحجز مقعداً في السلطة الجديدة، وهو أصلاً لا يعرف مشكلات الشعب، ولا يفكّر بها. وأيضاً كان هناك من يمتلك أوهاماً كثيرة عن التغيير والعالم والبديل.
الآن، لم يكن ذلك كله بعيداً عن التأثير في مسار الثورة، بل أنه أثّر بشكل مباشر فيها، وأوجد تعقيدات، وأضراراً، أسهمت في وصول الوضع إلى ما نحن فيه. وإذا كانت الثورة قد تُركت للعفوية، خصوصاً بعد أن عمل النظام على تصفية التنسيقيات التي ضمت فئاتٍ شبابيةً وناشطين لديهم قدر من الفهم السياسي، وحاول استثارة غرائز الفئات الشعبية، عبر أشكال مختلفة من الاستفزاز والوحشية، فقد شكّلت المعارضة عبئاً ثقيلاً على الثورة، وأضرّت بها في مختلف مراحلها. ويمكن توضيح ذلك في ثلاثة مستويات:
أولاً، إذا كانت الثورة قد توسعت ببطء، وأخذت سنة لكي تشمل كل سورية، حيث ظهر أن
كل هذا التأخير في توسّع الثورة نتيجة ذلك كان يعطي النظام الفرصة للتماسك، والتخطيط لمواجهة الثورة، والتحكّم في مسار الصراع. لهذا ظل متماسكاً سنة وتسعة أشهر، فظل قادراً على ضبط تمرّد الجيش، ومنع تفكك السلطة، بينما كان هذا الزمن مهماً في سياق إسقاط النظام، وكان التأخر مضرّاً بالثورة، كونها بلا قيادة فعلية ولا إستراتيجية. وهذا ما ظهر في المرحلة التالية.
ثانياً، كان الشغل "الخارجي" على الأسلمة والتسليح يسمح باللعب بالفصائل المسلحة التي باتت تحتاج المال والسلاح. وقد ظهر خطر الأسلمة جلياً، بعد أن بدأ النظام خطته، لتشكيل مجموعات سلفية إرهابية، حيث أطلق سراح "جهاديين" معتقلين، وأخذ ينفّذ خطة تشكيل فرع لتنظيم القاعدة، ثم "داعش". فقد أسهمت الأسلمة في إيجاد بيئة قابلة بهذا الوجود، ومهيئة لتقبّل مجموعاتٍ تأتي من الخارج. خصوصاً أن أطرافاً متعدّدة في المعارضة الخارجية رحبت بـهذا الوجود وأيدته ودعمته. وبهذا، أصبحت المجموعات الأصولية القوة الأكبر، سواء تعلق الأمر بـ "داعش" وجبهة النصرة أو حتى المجموعات الأخرى التي لا تختلف عنها كثيراً. لقد وُجدت هذه المجموعات ونمت تحت غطاء معارضة عاجزة تنتظر من يوصلها الى السلطة.
وأخيراً، أفضى ذلك الى أن تتحكم "الدول الداعمة" بالقرار، وأن تحدّد أدوار القوى، وتكتيكاتها، وأن تستخدمها في سياساتها، بما يخدم مصالحها هي ضداً على الثورة. وكما يبدو، سيكون الحل في مصلحة روسيا بتوافق كل هذه الدول "الداعمة"، فهي كلها تركض للتفاهم معها.
أخفقت المعارضة السورية، وأضرّت، وعليها الرحيل.