غابت ألمانيا، الدولة صاحبة النفوذ والاقتصاد الأقوى في أوروبا، عن الضربات العسكرية للثلاثي الأميركي الفرنسي البريطاني، التي استهدفت مواقع عسكرية تابعة للنظام السوري، كما اختارت اللهجة الأقل تصعيداً ضد روسيا في الحرب الدبلوماسية الدائرة بين الغرب عموماً وموسكو في ما يتعلق بتسميم العميل السابق سيرغي سكريبال في إنكلترا. حتى أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تحادثت هاتفياً، أمس الثلاثاء، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبحثت معه الوضع في سورية، على الرغم مما يشبه المقاطعة الغربية للتواصل مع موسكو منذ اندلاع الأزمة حول سكريبال.
ولانكفاء برلين عن مواجهة موسكو، حسابات وخصوصيات ألمانية تاريخية وسياسية واقتصادية وقانونية. ويؤيد خبراء في الشؤون الألمانية التبريرات التي أعطيت لعدم مشاركة بلادهم في الضربة العسكرية في سورية، والتي قيل فيها إن الحلفاء يتفهمون موقف برلين والصعوبات التي يعانيها جيشها، في ظل الاختلاف في وجهات النظر بين الأحزاب السياسية حول أهمية المشاركة من عدمها والخوف من استثمارها سياسياً.
ويعود الخبراء بالذاكرة إلى رفض المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر المشاركة في حرب العراق، وهو الذي كان يعاني حينها في سياساته الداخلية، إلا أنه ونتيجة موقفه من الحرب تمكّن حزبه "الاشتراكي الديمقراطي" من استعادة تماسكه وحقق نتائج جيدة في الانتخابات التشريعية. ويبدو أن ميركل، التي انطلقت بولايتها الرابعة بصعوبة وبعد أشهر من المفاوضات لتشكيل الحكومة، لا تريد خسارة ما تبقّى لها من رصيد شعبي وسياسي بقرار الدخول مع حلفاء ألمانيا في مواجهة روسيا، خصوصاً أن الضربة الثلاثية لم تكن ترتكز على استراتيجية واضحة، وقد تكون لها نتائج عكسية على الوضع السياسي في ألمانيا بفعل التباين القائم في وجهات النظر بين الأحزاب، بين مرحب ومعارض.
كذلك يلفت هؤلاء الخبراء إلى وجود تاريخ يحكم العلاقة بين القوتين الروسية والألمانية، يقوم على سياسة خفض التوتر المعتمدة منذ سبعينيات القرن الماضي، وانتهجها المستشار الألماني الأسبق فيلي برانت تجاه الاتحاد السوفييتي سابقاً، مع اعتماد الحوار والتفاوض بدلاً من التأزيم والحل العسكري. هذا الأمر لم يأت من العدم، فالروس خاضوا آنذاك الحرب ضد ألمانيا النازية وكلفتهم ملايين الخسائر بالأرواح وما زالت صورهم ماثلة في الأذهان، وبالتالي هناك قناعة ألمانية بالتعامل مع روسيا بكثير من الروية واللجوء إلى الحل الدبلوماسي وتنفيس الاحتقان. هذا الدور لعبته برلين أخيراً عند احتلال الروس لشبه جزيرة القرم في شرق أوكرانيا، خصوصاً أن الوضع في وسط أوروبا معرض للخطر. من جهة ثانية، يرى متخصصون في الدراسات والعلاقات الأوروبية، أنه يجب التخلي عن وهم أن روسيا شريك استراتيجي، فهي شريك تجاري ومورد للطاقة وبلد بجب إبقاء حوار معه، متوقفين عند أهمية العلاقات الاقتصادية.
في موازاة ذلك، يبرز الرأي العام الألماني الذي يطالب بالحيادية والنأي بالنفس عن المشاركة في الحروب، فقد أظهر استطلاع للرأي، نُشر يوم الجمعة الماضي، أن 18 في المائة فقط من الألمان يؤيدون مشاركة ألمانية في مهمة عسكرية في سورية، وهناك عدم ثقة تاريخية عند إعلان الحكومات الغربية عن المشاركة في الحروب. هذا الأمر برره رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني نوربرت روتغن، بقوله في حديث تلفزيوني أخيراً: "لم يسأل أحد ألمانيا عن إمكانية مشاركتها في الضربة، ناهيك عن أن القدرات الألمانية العسكرية لا تسمح بذلك، والبلد غير مستعد لهذا الأمر، وسيكون من الصعب تنفيذه دستورياً".
اقــرأ أيضاً
من الناحية القانونية، تتطلب المشاركة في ضربة عسكرية في سورية موافقة البوندستاغ أولاً، لأن مهمة برلين في سورية حالياً تقتصر على دعم قوات التحالف الدولي لمكافحة تنظيم "داعش" وليس النظام السوري، علماً أن الخارجية الألمانية ردت على المعلومات التي أشارت سابقاً إلى تحرك الفرقاطة الألمانية "هيسن" ومرافقتها حاملة طائرات أميركية إلى البحر المتوسط، موضحة أن التحرك جاء من أجل تدريبات مشتركة مخطط لها مسبقاً ولا علاقة له بالهجوم الذي كانت تتحضر له الولايات المتحدة، ونفذته السبت الماضي بمعاونة فرنسا وبريطانيا.
كذلك هناك عدم قناعة بالاستراتيجية المعتمدة في سورية، وفي هذا الإطار ميّز رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، فولفغانغ ايشنغر، في حديث تلفزيوني، بين أمرين: العمل ضد استخدام الأسلحة الكيميائية لردع الدكتاتوريات الأخرى من استخدام هذا النوع من الأسلحة، والثاني غياب الاستراتيجية التي قد تغيّر من مسار الحرب في سورية. من جهته، اعتبر المفتش السابق في الأمم المتحدة، يان فان اكين، المنتمي إلى حزب اليسار، أن الرد يجب أن يتم وفقاً لسيادة القانون وبتفويض من مجلس الأمن وليس إطلاق النار أولاً ثم التأكد من المنفذ. وأضاف: "من يضمن أن الغرب هاجم القواعد السورية حيث يتم تخزين الغاز السام؟".
في المقابل، اعتبر نائب رئيس كتلة "الليبرالي الحر" في البرلمان، فولغانغ كوبيكي، أنه "كان من الخطأ أن ترفض ألمانيا مساعدة الأصدقاء". إلا أن وزير الاقتصاد بيتر التماير، دافع في حديث لصحيفة "بيلد"، عن عدم مشاركة ألمانيا في الضربة الجوية ومساندة حلفائها بالقول: "إذا لم نقم بالضربات بأنفسنا، فهذا لا يعني أننا غير معنيين، والحكومة الاتحادية تعمل وعبر قنواتها لوقف عمليات القتل في سورية. نحن ندافع عن تضامن الغرب ونتحمّل مهام أخرى، مثل تدريب البشمركة".
ويرى متابعون أن العبارات التي تستخدمها ميركل تجاه الصراع السوري لا تثير الكثير من الإعجاب، معتبرين أن خيار برلين مخزٍ، على الرغم من تبنّي الحكومة الاتحادية موقفاً مطالباً بحل سياسي ينهي وجود بشار الأسد في السلطة. ويقول هؤلاء إن المستشارة الألمانية تفتقر إلى القوة والشجاعة، والمطلوب ألا تكون ألمانيا في الخطوط الخلفية في ظل الأعمال الوحشية التي تُرتكب في سورية. وهنا يثار الشك عما إذا كانت برلين تغض الطرف عن الحقيقة وتنصاع لما يسمى بالنضال من أجل السلطة، فيما يرى البعض أن ألمانيا فشلت مرة جديدة في تحمّل المسؤولية ونسيت تاريخها، في حين أن أميركا وبريطانيا وفرنسا تفرض نفسها وتخاطر بحياة جنودها.
في المقابل، يرى باحثون في العلاقات الدولية أن ألمانيا على وجه التحديد هي مزيج لبلد يقدّم نفسه كقوة لضبط النفس، ويتعامل في الأزمات الحساسة وفق مهمات محددة الأهداف، معتبرين أن على برلين الآن الاستفادة من هذه الامتيازات وتوظيفها وعدم الاكتفاء بالتعليق على تصرفات الجهات الفاعلة الأخرى باستخدام الدبلوماسية كبديل للقوة العسكرية، خصوصاً أن روسيا باتت ترى نفسها في الواقع خصماً سياسياً عالمياً ولم تعد تعرّف نفسها كشريك للغرب، وهي تمكّنت من استغلال ضعفه الاستراتيجي، وهذا ما يتعارض مع المطالب السياسية الأوروبية الطموحة.
ولانكفاء برلين عن مواجهة موسكو، حسابات وخصوصيات ألمانية تاريخية وسياسية واقتصادية وقانونية. ويؤيد خبراء في الشؤون الألمانية التبريرات التي أعطيت لعدم مشاركة بلادهم في الضربة العسكرية في سورية، والتي قيل فيها إن الحلفاء يتفهمون موقف برلين والصعوبات التي يعانيها جيشها، في ظل الاختلاف في وجهات النظر بين الأحزاب السياسية حول أهمية المشاركة من عدمها والخوف من استثمارها سياسياً.
كذلك يلفت هؤلاء الخبراء إلى وجود تاريخ يحكم العلاقة بين القوتين الروسية والألمانية، يقوم على سياسة خفض التوتر المعتمدة منذ سبعينيات القرن الماضي، وانتهجها المستشار الألماني الأسبق فيلي برانت تجاه الاتحاد السوفييتي سابقاً، مع اعتماد الحوار والتفاوض بدلاً من التأزيم والحل العسكري. هذا الأمر لم يأت من العدم، فالروس خاضوا آنذاك الحرب ضد ألمانيا النازية وكلفتهم ملايين الخسائر بالأرواح وما زالت صورهم ماثلة في الأذهان، وبالتالي هناك قناعة ألمانية بالتعامل مع روسيا بكثير من الروية واللجوء إلى الحل الدبلوماسي وتنفيس الاحتقان. هذا الدور لعبته برلين أخيراً عند احتلال الروس لشبه جزيرة القرم في شرق أوكرانيا، خصوصاً أن الوضع في وسط أوروبا معرض للخطر. من جهة ثانية، يرى متخصصون في الدراسات والعلاقات الأوروبية، أنه يجب التخلي عن وهم أن روسيا شريك استراتيجي، فهي شريك تجاري ومورد للطاقة وبلد بجب إبقاء حوار معه، متوقفين عند أهمية العلاقات الاقتصادية.
في موازاة ذلك، يبرز الرأي العام الألماني الذي يطالب بالحيادية والنأي بالنفس عن المشاركة في الحروب، فقد أظهر استطلاع للرأي، نُشر يوم الجمعة الماضي، أن 18 في المائة فقط من الألمان يؤيدون مشاركة ألمانية في مهمة عسكرية في سورية، وهناك عدم ثقة تاريخية عند إعلان الحكومات الغربية عن المشاركة في الحروب. هذا الأمر برره رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني نوربرت روتغن، بقوله في حديث تلفزيوني أخيراً: "لم يسأل أحد ألمانيا عن إمكانية مشاركتها في الضربة، ناهيك عن أن القدرات الألمانية العسكرية لا تسمح بذلك، والبلد غير مستعد لهذا الأمر، وسيكون من الصعب تنفيذه دستورياً".
من الناحية القانونية، تتطلب المشاركة في ضربة عسكرية في سورية موافقة البوندستاغ أولاً، لأن مهمة برلين في سورية حالياً تقتصر على دعم قوات التحالف الدولي لمكافحة تنظيم "داعش" وليس النظام السوري، علماً أن الخارجية الألمانية ردت على المعلومات التي أشارت سابقاً إلى تحرك الفرقاطة الألمانية "هيسن" ومرافقتها حاملة طائرات أميركية إلى البحر المتوسط، موضحة أن التحرك جاء من أجل تدريبات مشتركة مخطط لها مسبقاً ولا علاقة له بالهجوم الذي كانت تتحضر له الولايات المتحدة، ونفذته السبت الماضي بمعاونة فرنسا وبريطانيا.
في المقابل، اعتبر نائب رئيس كتلة "الليبرالي الحر" في البرلمان، فولغانغ كوبيكي، أنه "كان من الخطأ أن ترفض ألمانيا مساعدة الأصدقاء". إلا أن وزير الاقتصاد بيتر التماير، دافع في حديث لصحيفة "بيلد"، عن عدم مشاركة ألمانيا في الضربة الجوية ومساندة حلفائها بالقول: "إذا لم نقم بالضربات بأنفسنا، فهذا لا يعني أننا غير معنيين، والحكومة الاتحادية تعمل وعبر قنواتها لوقف عمليات القتل في سورية. نحن ندافع عن تضامن الغرب ونتحمّل مهام أخرى، مثل تدريب البشمركة".
ويرى متابعون أن العبارات التي تستخدمها ميركل تجاه الصراع السوري لا تثير الكثير من الإعجاب، معتبرين أن خيار برلين مخزٍ، على الرغم من تبنّي الحكومة الاتحادية موقفاً مطالباً بحل سياسي ينهي وجود بشار الأسد في السلطة. ويقول هؤلاء إن المستشارة الألمانية تفتقر إلى القوة والشجاعة، والمطلوب ألا تكون ألمانيا في الخطوط الخلفية في ظل الأعمال الوحشية التي تُرتكب في سورية. وهنا يثار الشك عما إذا كانت برلين تغض الطرف عن الحقيقة وتنصاع لما يسمى بالنضال من أجل السلطة، فيما يرى البعض أن ألمانيا فشلت مرة جديدة في تحمّل المسؤولية ونسيت تاريخها، في حين أن أميركا وبريطانيا وفرنسا تفرض نفسها وتخاطر بحياة جنودها.
في المقابل، يرى باحثون في العلاقات الدولية أن ألمانيا على وجه التحديد هي مزيج لبلد يقدّم نفسه كقوة لضبط النفس، ويتعامل في الأزمات الحساسة وفق مهمات محددة الأهداف، معتبرين أن على برلين الآن الاستفادة من هذه الامتيازات وتوظيفها وعدم الاكتفاء بالتعليق على تصرفات الجهات الفاعلة الأخرى باستخدام الدبلوماسية كبديل للقوة العسكرية، خصوصاً أن روسيا باتت ترى نفسها في الواقع خصماً سياسياً عالمياً ولم تعد تعرّف نفسها كشريك للغرب، وهي تمكّنت من استغلال ضعفه الاستراتيجي، وهذا ما يتعارض مع المطالب السياسية الأوروبية الطموحة.