يتصاعد السجال الألماني والأوروبي حول الخطوة التالية بحق موسكو، بعد تأكيد أن المعارض الروسي أليكسي نافالني تعرّض لمحاولة اغتيال باستخدام نوع مطوَّر من غاز الأعصاب الروسي "نوفيتشوك".
وتطالب برلين، الرافضة للرواية الروسية النافية لفرضية التسميم، بأن تقدم موسكو أجوبة واضحة عمّا جرى، وإلا فإن خط غاز الشمال الروسي "نوردستريم2" سيكون على طاولة العقوبات.
وفي ظل تزايد الدعوات في ألمانيا إلى إنهاء مشروع الغاز الطبيعي المشترك، الألماني-الروسي "نوردستريم2"، الذي يعبر بحر البلطيق باتجاه الساحل الشمالي لألمانيا وإلى بقية المستهلكين في غرب أوروبا، تجد المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، نفسها مضطرة إلى التجاوب مع تيار متشدد يطالب بعقوبات على الكرملين.
ويشبّه خبير الشؤون الروسية في "مركز الدراسات الدولية" في كوبنهاغن، فليمنغ سبيلدسبويل هانسن، ما يجري بـ"لعبة بوكر"، فداخل معسكر المستشارة الألمانية ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، تتعالى الأصوات المطالبة بضرب الاقتصاد الروسي في الصميم.
ويقود رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الاتحادي (بوندستاغ) نوربرت روتغن، فريقاً من المتشددين لضرورة محاسبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اقتصادياً.
ونقلت الصحافة الألمانية والدنماركية عن روتغن وزميله فريدريش ميرس، المنافسين لتزعم حزب ميركل "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" في ديسمبر/كانون الأول المقبل، رغبتهما بوقف نورد ستريم2. ويقترح ميرس وقف مشروع الغاز لعامين، وبعدها يجري تقييم العلاقة بروسيا وإمكانية استئناف توريد الغاز الروسي.
المستشارة ميركل لم تستبعد وقف المشروع، وتسعى إلى مناقشة العقوبات على مستوى الاتحاد الأوروبي. وبالنظر إلى اختلاف الأوروبيين في موقفهم من معاقبة موسكو اقتصادياً، يسعى الساسة الألمان إلى تقوية مواقف مشتركة أقسى من الماضي. ففي محاولة قتل العميل المنشق سيرغي سكريبال في بريطانيا، مارس/آذار 2018، لم يستطع الأوروبيون التوافق على استهداف خط الغاز الروسي "نورد ستريم2"، بل اكتفت بعض الدول بإصدار بيانات إدانة، وأخرى طردت بعض الدبلوماسيين الروس، ولم يوافق آخرون على فرض عقوبات.
هذه المرة تبدو الأمور، أقله في سجالات برلين وبعض دول الشمال، أكثر جدية تجاه موسكو، التي استطاعت الإفلات من استهداف العمود الفقري لاقتصاداتها المعتمدة على الطاقة.
واعتبر محرر وناشر "فرانكفورتر ألغماينه" المحافظة، بيرتهولد كولر، أنّ "من الضروري الرد على موسكو باستهداف سيل الشمال". ويرى كولر أن "موسكو تلعب بسياسة الطاقة لتحويلها إلى قوة في السياسة".
بالنظر إلى اختلاف الأوروبيين في موقفهم من معاقبة موسكو اقتصاديا، يسعى الساسة الألمان إلى تقوية مواقف مشتركة أقسى من الماضي. ففي محاولة قتل العميل المنشق سيرغي سكريبال في بريطانيا، مارس/آذار 2018، لم يستطع الأوروبيون التوافق على استهداف خط الغاز الروسي "نورد ستريم2"، بل اكتفت بعض الدول بإصدار بيانات إدانة، وأخرى طردت بعض الدبلوماسيين الروس، ولم يوافق آخرون على فرض عقوبات
وذكر كولر ساسة بلاده أن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدم عائدات صادرات الطاقة لتمويل نظامه وحروبه".
ويتفق الخط المتشدد في ألمانيا والدنمارك والسويد ودول حوض البلطيق مع ما ذكره الرئيس الأميركي دونالد ترامب سابقاً عن أن "ألمانيا تخاطر في تقديم أوراق ضغط ونفوذ روسي في المستقبل".
ورغم أن تصريحات ترامب جاءت في سياق حروب الطاقة بين الطرفين الروسي والأميركي، إلا أن نهج التشدد الذي يطالب به بعض الأوروبيين منذ غزو وضم موسكو لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014، بدأ أخيراً يهيمن على تصريحات الخبراء والساسة في أكثر من دولة تتوجس من سياسات موسكو، وخصوصاً في اسكندينافيا والبلطيق، حيث يسود توتر شبه أسبوعي بسبب نشر موسكو لبوارج حربية وإجراء تدريبات بحجة حماية مدّ خطوط نوردستريم، الذي شارف على الانتهاء.
وتعرضت ألمانيا لسنوات لانتقادات من بعض الشركاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وخصوصاً بعد خلافاتها منذ 2018 مع كوبنهاغن، بسبب استمرار تعاونها مع موسكو في مشروع "نوردستريم 2" رغم ضمّ القرم.
برلين كانت دائماً تردد أن المشروع "تجاري فحسب"، وأنّ "من المهم الحفاظ على حوار مع الكرملين رغم الخلافات في أمور كثيرة، بما فيها سياسة موسكو في أوكرانيا".
لكن يبدو أن قضية نافالني غيّرت من نظرة المؤسسة السياسية الألمانية وخطابها، وبدأ يبرز خطاب غير معتاد سابقاً عن "استبداد (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين"، الذي يطلقه تيار البديل المحتمل في قيادة الديمقراطي المسيحي، نوربرت روتغن، وهو ما ينعكس أيضاً على مواقف المستشارة ميركل، التي يمكن أن تلجأ إلى سياسة منفردة إذا لم يوافق الأوروبيون جماعياً على فرض عقوبات قاسية على موسكو، كوقف العمل بخط الغاز الطبيعي، ما سيوجه ضربة قاصمة إلى اقتصاد الكرملين.
فإذا كانت كبريات الاقتصادات الأوروبية، ألمانيا، تهدد بعقوبات، إذا لم تجب موسكو بوضوح عمّا تعرّض له أليكسي نافالني خلال الفترة القادمة، فذلك يعني أن دولاً أوروبية أخرى ستلحق بالقاطرة الألمانية. فاستهداف الطاقة الروسية بالعقوبات أمر ليس سهلاً على موسكو، نظراً إلى أن الغاز الطبيعي والنفط يشكلان أكثر من 50 في المائة من إجمالي الصادرات الروسية، ونحو 45 في المائة من العائدات إلى خزينة الدولة.
ونظراً إلى أن الاقتصاد الروسي "لا يزال يعتمد الأساليب القديمة والتقليدية"، فإن أي استهداف لقطاع الطاقة سيعتبر ضربة قوية، بحسب ما ينقل الخبير الاقتصادي الروسي فالدسلاف انوسيمتسيف، ضمن دراسة للمركز الدنماركي للسياسات الدولية عن استخدام موسكو للطاقة للضغط السياسي.
استهداف قطاع الطاقة الروسي يعني أيضاً ضربة معنوية للرئيس الروسي بوتين، الذي يريد المحافظة على تصدر بلده للدول الرئيسة المصدرة.
وفي السياق، يرى الخبير في الشأن الروسي، الباحث الدنماركي فليمنغ سبيلدسبويل هانسن، أن الضرر وقع بالنسبة إلى صورة الكرملين منذ غزو شبه جزيرة القرم، "فقد أصبح الانتقاد سيد الموقف في أوروبا في ما خصّ سياسات روسيا الخارجية، وجاءت قضية نافالني لتعقّد الأمور على الصعيد الداخلي الروسي". ويجد هانسن أنه "أياً كانت قائمة العقوبات التي يمكن برلين فرضها على موسكو، فستكون ذات تأثير واضح على الكرملين".
ويجري هذا السجال الألماني المتشدد، في المعسكر المحافظ، في الوقت الذي يرى فيه آخرون "ضرورة التريث".
وفي جناح اليسار، يطالب أحد مخضرمي السياسة في "دي لينكه" اليساري، غريغور غيسي، إشراك روسيا "في التحقيق حول ما جرى لنافالني". بل طالب غيسي، على خلفية تشدد المواقف في برلين الأسبوع الماضي، بعدم التسرع في فرض عقوبات على موسكو.
وتساءل، بحسب ما تنقل عنه الصحافة الألمانية: "ما مصلحة (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين في قتل نافالني؟".
وتنتشر في ألمانيا، وغيرها في دول الشمال، أصوات من كلا معسكري اليسار واليمين المتشدد، تدافع عن بوتين وسياساته. وذهبت بعض تلك الأصوات أخيراً إلى عدم التدخل في شؤون بيلاروسيا، في ضوء تقارير تتحدث عن دعم موسكو للرئيس ألكسندر لوكاشينكو في استخدام قبضة حديدية لقمع حركة الاحتجاجات الشعبية في مينسك.