مثل أعظم الفنانين، لا ندرك قيمتهم الحقيقية إلا بعد موتهم. هكذا كان مايكل لاودروب، لم نشعر بعظمته واختلافه حتى اعتزاله. اشتهرت الدنمارك كروياً بثلاث ظواهر، حائط الصد الفولاذي في يورو 92 مع الحارس الأمين بيتر شمايكل، واحتفال براين لاودروب الشهير ضد البرازيل في كأس العالم 98، حينما سجل هدفاً رائعاً وارتمى على الأرض بطريقة ساخرة، وبالتأكيد هناك مكان خاص في القلب والعقل والذاكرة لأعظم لاعب في تاريخ هذا البلد، مايكل لاودروب، الفنان الذي تعلق الجميع به داخل الملعب.
كان يملك عقل بيكنباور، وديناميكية كرويف، القدرات التقنية لجورج بيست، مع متعة زيكو ورؤية سقراط، كل هذه الصفات وضعت بين أقدام الفنان الدنماركي، لذلك كان لا بد من ذكره أولاً عند الحديث عن كريستيان إريكسن، لأن من دون مايكل، لكان من الصعب على إريكسن وأمثاله أن يحلموا بالظهور وسط الكبار، ومنافسة أكبر نجوم اللعبة في الدوري الأكثر شعبية على مستوى العالم.
العقل
"إنه لاعب لديه هذه القدرة التي تجعل الفريق أكثر توازناً حتى إذا لم يلمس الكرة، وأيضاً جعل زملائه يظهرون بشكل أفضل. هو، بلا شك، شخص خاص جداً. لاعب كرة قدم يفهم ويؤثر، بدون الحاجة إلى توجيهه والصراخ له من خارج الخط. باختصار إريكسن يشبه عقل الفريق، اللاعب الذي يساعد الجميع على فهم التفاصيل بأسلوب أفضل"، هكذا وصف ماوريسيو بوكيتينو نجمه الدنماركي في حديث سابق مع شبكة "سكاي سبورت" البريطانية.
بوكيتينو لا يجامل وليس من الطبيعي أن يتحدث بشيء من الفخر عن أي لاعب مهما بلغت قدراته، الأرجنتيني بارد بعض الشيء، لكنه تجرأ وخرج من عباءة الهادئ الصامت، ليمدح كريستيان إريكسن، نظراً لكل ما قدمه من أجل توتنهام، وإظهاره لرؤية ممتازة وذكاء غير تقليدي داخل الملعب، جعله يصعد بخطى ثابتة نحو صفوة نجوم البريميرليغ، ويكتب اسمه وسط الكبار بأداء ثابت ومردود ممتاز على مستوى الأرقام والجانب التقني.
إريكسن مثل الهارب من "الرادار"، يسير بأقصى سرعة على الطريق، لكنه يعرف كيف يفلت من الكاميرات، ويصل إلى مبتغاه بأسرع الوسائل الممكنة، واللاعب الإسكندنافي حاسم بالفطرة، يسجل الأهداف ويصنعها لزملائه، له باع طويل في التمريرات البينية والكرات الحاسمة، ويصنع عدداً لا نهائياً من الفرص بالثلث الأخير، لتشعر في بعض اللحظات وكأنه يلعب بمفرده داخل المستطيل من دون رقابة، لأنه يجيد تخطي خطوط الضغط بسبب تمركزه المثالي بالكرة ومن دونها.
مصانع الكرة
تعلم إريكسن أصول الكرة في هولندا مع أياكس أمستردام، واستفاد اللاعب من وجوده في مدارس الناشئين ثم الفريق الأول لمدة مشتركة وصلت إلى خمس سنوات. واستحق عن جدارة لقب المايسترو الصغير، كونه خياراً أكثر من رائع لأي ناد يريد لاعب وسط مهاريا وفنانا وقويا، بالإضافة لقدرته على اللعب في كل مراكز الوسط، فيما يعرف تكتيكياً بمحرك الارتكاز.
شارك في مباريات عديدة كلاعب وسط صريح يربط الدفاع بالهجوم، مع عودته في بعض المراحل إلى الخلف قليلاً، ليشغل مركز الارتكاز الصريح أمام خط الدفاع، لبناء الهجمة من أماكن بعيدة على طريقة "الريجستا" لبيرلو. وأثبت كفاءة أيضاً كلاعب وسط هجومي في المركز رقم 10 وبالتالي وفر خيارات عديدة لمدربي بطل هولندا وزعيمها الأصيل.
في إنكلترا تبدلت الأمور قليلاً، لأنه كان محظوظاً باللعب تحت قيادة فيلاس بواش ثم بوكيتينو، وتحول اللاعب مع المدرب الأرجنتيني إلى نسخة شبه مكتملة، من خلال الجمع بين خطتي 4-2-3-1 و 3-4-2-1، ليلعب إريكسن كصانع لعب حر وجناح عند الحاجة، مع عودته المستمرة لمساندة ثنائي الارتكاز في الخروج بالهجمة تحت الضغط، وتحركه المثالي في أنصاف المسافات، بالتحديد بين الطرف الأيمن على حافة منطقة الجزاء والمنطقة 14 بين دفاع المنافس وخط وسطه، حتى يصبح في أفضل وضع ممكن لاستلام الكرات خلف مراكز الضغط، وتحويلها مباشرة إلى هدافي السبيرز.
"أحب الحركة المستمرة، ليس معنى ذلك أنني أسرع من غيري، لكنني أسعى نحو امتلاك الكرة. أعترف بأنني لا أستطيع مراوغة 20 لاعبا على الخط، لذلك أفضل التسلل نحو الهجمة، خلق وصناعة شيء لزملائي، وأرى أن أستاذ هذا الأسلوب هو أندريس إنييستا، لكنه يجري بالتأكيد أقل مني لأن برشلونة لا يترك الكرة لخصومه بسهولة". كريستيان إريكسن يتحدث عن نفسه.
الأفضل
تتضاعف الحاجة في السنوات الأخيرة للاعب المهاري القادر على التفوق في موقف 1 ضد 1، لذلك تلهث الأندية الكبيرة خلف اللاعبين الممتازين في المراوغة. ورغم أن إريكسن لا يشتهر بهذه الصفة، خصوصاً أن عدد مراوغاته الناجحة ضعيفة بعض الشيء، إلا أنه صاحب سجل ممتاز على مستوى تسجيل الأهداف وصناعة الفرص ودقة التمريرات وقوة التسديدات على المرمى، بفضل رؤيته الثاقبة وفهمه لتفاصيل التمركز أثناء الهجمة.
سريع بطبعه، يفضل الركض ولا يتعب منه. منذ طفولته وهو غير مميز في التلاعب بالكرة والاستعراض، لذلك عندما جاء إلى لندن، حاول أن يتطور في ما يخص القوة البدنية وتحسين المزايا التي يمتلكها من الأساس، كدقة التمرير والوقوف على الكرة والتحكم في نسق المباريات، والحسم أمام المرمى.
تكيف النجم سريعاً مع متطلبات مدربه، وضاعف من قدراته البدنية، ليصبح قادراً على الركض والضغط في نصف ملعب المنافسين، ليمثل في النهاية نسخة متكاملة من صانع اللعب الحديث البعيد تماماً عن أي رفاهية. ومع تمتع أقرانه بقدرة أكبر على الاختراق وسحب المدافعين، إلا أنه وضع اسمه بينهم وتفوق عليهم أيضاً، لأنه لا يبذل مجهوداً أكثر فحسب، بل يضع ذلك المجهود في المكان الصحيح والإطار المناسب.
ما بعد توتنهام
"صانع اللعب الذكي، لا يفكر كثيراً، ولا يتأخر في التمرير، ولا يكتفي حتى بالتفكير في اللعبة قبل أن تصل إليه الكرة، بل يجب عليه أن يُدرك أبعاد الهجمة من دون أن يستغرق عدة ثوان، أو حتى ثانية واحدة، أو جزء من الثانية. عندما يمرر الكرة بطريقة مميزة وعبقرية، فإن الأمر لا يدخل في نطاق التوقع أو التأمل، وأيضا لا يجب أن نضع له أسباب وتفسيرات عديدة، لأنه يتمحور أكثر حول فكرة الإدراك، والإحساس الكامل بكل زوايا الملعب، وكأنه يملك عينين في الخلف، أو يلعب الكرة وهو معصوب العينين من الأساس"، هكذا هم صناع اللعب العظام، ومما لا شك فيه أن إريكسن يسير على خطاهم في الفترة الحالية.
كثيرون بدأوا مسيرتهم على الخط الجانبي ثم تحولوا إلى العمق كصناع لعب، مثل الألماني مسعود أوزيل والإسباني دافيد سيلفا، لكن إريكسن فعل العكس مع توتنهام، إذ تألق كلاعب وسط صريح، ثم تحول إلى الطرف قليلاً تحت قيادة بوكيتينو، ليلعب كجناح صريح في خطة 4-2-3-1، وصانع لعب في أنصاف المسافات عندما يراهن السبيرز على رسم 3-4-2-1، بوجود إريكسن وديلي آلي خلف هاري كين.
وسط الأرقام الفلكية في الآونة الأخيرة، فإن إريكسن سيكون مطلوباً بشدة في الميركاتو المقبل، ومع القوة المعروفة من إدارة توتنهام، فإن سعر الدنماركي سيتعدى 100 مليون يورو بكل تأكيد، لكنه سيجد بسهولة من يدفع هذا الرقم، خصوصاً مع تميز كريستيان على مستوى الجانب الفني والتقني والرقمي في آن واحد.