عقدة البلقان... الدور لمقدونيا

24 مايو 2015
كومانوفو نموذج عن أزلية الصراع البلقاني (فرانس برس)
+ الخط -

لم تستقم الأمور بعد في منطقة البلقان. تاريخها أكبر من الاسترخاء المُمهّد لاستقرار، بل إن تاريخها مجرّد هُدَن متلاحقة قبل اندلاع حروب جديدة. المشكلة هذه المرة ليست لدى "الكبار"، كصربيا أو كرواتيا أو البوسنة والهرسك، بل في دولة صغيرة، لا تتعدّى مساحتها الـ25.713 كيلومتراً مربّعاً، وكانت هادئة، إلى حدّ ما، في الفترة التي تلت الحروب اليوغسلافية (1992 ـ 1995) وتردداتها، لكنها اليوم باتت في عين الإعصار: مقدونيا.

في 9 و10 مايو/أيار الحالي، اندلعت مواجهات عنيفة بين الشرطة المقدونية و"جيش التحرير الوطني" التابع لألبان مقدونيا والذين يُشكّلون حوالي 25.2 في المائة من مجمل سكان البلاد، في منطقة كومانوفو، شمالي شرقي مقدونيا. سقط 22 قتيلاً و37 جريحاً، وألقي القبض على 20 مسلحاً في المواجهات، أتوا بمعظمهم من كوسوفو المجاورة. كانت المواجهات قد بدأت على خلفية مداهمة الشرطة منزلاً يتواجد فيه مهرّبو أسلحة. واعتبرت الشرطة المقدونية أن "العملية كانت موجّهة ضد مجموعة إرهابية كانت تهدف لضرب مؤسسات أمنية ورسمية في الدولة".

لم تكن المواجهة الأولى من نوعها في كومانوفو، فقد خرقت هدوء مقدونيا اشتباكات مشابهة في العام 2001، لتكون كومانوفو نموذجاً عن أزلية الصراع البلقاني. لم تنتهِ المسألة عند هذا الحدّ، فمواجهة من هذا النوع يُمكنها إشعال البلقان برمته. ألبانيا تدخلت، وحذّرت عبر رئيس وزرائها إيدي راما، سكوبيي من "مغبّة التعرّض للأقلية الألبانية"، مهدداً بـ"السعي لمنع انضمام مقدونيا إلى حلف شمال الأطلسي". كما استقالت وزيرة الداخلية المقدونية جوردانا يانكولوسكا، ووزير النقل مايل ياناكييسكي، ورئيس الاستخبارات ساسو ميالكوف، على خلفية الاضطرابات وعجزهم عن مواجهتها، وخصوصاً أن البلاد تمرّ في حالة سياسية عصيبة.

وتشهد مقدونيا أخيراً حراكين شعبيين غير مسبوقين، واحد معارض لحكومة نيكولا غرويفسكي وآخر موالٍ له. وتمكنت المعارضة من حشد أكثر من 20 ألف شخص يوم الأحد الماضي احتجاجاً على تردّي الأوضاع المعيشية في البلاد، قبل أن يردّ أنصار غرويفسكي بتظاهرة موالية ضمّت أكثر من 90 ألف شخص يوم الاثنين الماضي.

وأعاد المعارضون المقدونيون فتح ملف المعارض القتيل مارتن نشكوفسكي، للإشارة إلى الفوضى السياسية التي تعيشها البلاد. وعرض رئيس حزب "اتحاد الديمقراطيين الاجتماعيين" المعارض، زوران زاييف، تسجيلات تضمّنت اتصالات هاتفية جرت بين غرويفسكي، وسكرتيره الخاص مارتن بروتوغير، ووزيرة الداخلية جوردانا يانكولوسكا، والمتحدث باسم وزارة الداخلية إيفو كوتيسكس. وكان نشكوفسكي قد لقي مصرعه على يد إيغور سباسوف أحد أعضاء القوات الخاصة، خلال احتفالات، عقب ظهور نتائج الانتخابات العامة، التي جرت في 5 يونيو/حزيران 2011، وقضت المحكمة بسجن سباسوف 14 عاماً.

اقرأ أيضاً: "السيل الجنوبي": صمام الغاز بين روسيا وتركيا والتحولات السياسية

ويحظى غرويفسكي بدعمٍ روسي، تحديداً بعد قرار توريد الغاز من روسيا عبر "السيل التركي" بدلاً من "السيل الجنوبي"، إلى البلقان ومنه إلى باقي دول جنوب أوروبا، كبديل عن خطوط الغاز الروسية، التي كانت تعبر في أوكرانيا، قبل نشوب الحرب في الشرق، في فبراير/شباط 2014. وكان مخطط "السيل الجنوبي" (ساوث ستريم) هو البديل الأساسي عن خطوط أوكرانيا، لكن "تقاعس الاتحاد الأوروبي" وفقاً لروسيا، دفع الكرملين إلى التفاهم مع تركيا، وتسمية السيل الجديد باسم الدولة الأورو ـ آسيوية.

يرى غرويفسكي أن "السيل التركي" سينقذه من ضغط المعارضة، كي لا ينتهي مصيره كمصير الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، الذي استنجد بروسيا بعد اندلاع المواجهات ضده واشتعال الحرب في الشرق الأوكراني. مع العلم أن مقدونيا من الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في مرحلة لاحقة، غير أنه مع "السيل التركي" الجديد، والمحاولة الروسية لاختراق أوروبا من البلقان، وبوجود حلفاء "طبيعيين" كصربيا ومقدونيا، في ظلّ تنامي الحديث عن ضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى الاتحاد، يصبح للمواجهات في كومانوفو طعم آخر، قد لا تنال بعدها سكوبيي عضوية الاتحاد. لكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ساهمت في تبريد الأمور بين روسيا وأوروبا، وربما قد تنعكس إيجاباً على باقي الملفات البلقانية والشرق أوروبية، بعد اعلانها في قمة ريغا الأوروبية المخصصة لـ"الشراكة الشرقية" والتي عُقدت يومي 21 و22 مايو/أيار، أن "القمة مخصصة فقط للتقارب بين دول الشرق الأوروبي والاتحاد الأوروبي لا بهدف ضمّ دول الشرق إلى الاتحاد".

كذلك حظيت مقدونيا بـ"امتياز" جديد، وهو تراجع النبرة اليونانية في شأن اسم البلاد. بالنسبة إلى اليونانيين فإن وجود بلاد باسم "مقدونيا" في جوارهم، يُشكّل تحدياً لمنطقة مقدونيا اليونانية الواقعة شمالي أثينا، والتي منها جاء الإسكندر المقدوني، وجزء كبير من الحضارة الإغريقية. سكتت أثينا بفعل التفاهم حول "السيل التركي"، واقتنع رئيس الحكومة اليونانية، أليكسيس تسيبراس بـ"جدوى" التعاون مع مقدونيا بإشراف روسي، ليُنجد نفسه من براثن الإفلاس والديون الأوروبية. ويرى الكرملين أن ما يجري في مقدونيا "ليس سوى محاولة لإشعال ثورة ملوّنة"، في تعريفه للأحداث. ويذهب محللو الصحف الروسية أبعد من ذلك، إلى حدّ القول إن "تقسيم مقدونيا، يُمكن أن يكون حلاً، على الرغم من سعي الألبان عبر مليشيا جيش التحرير الوطني، إلى توحيد أقلياتهم في مختلف أنحاء البلقان لتشكيل دولة واحدة، وهو ما يعني صدامهم مع معظم الدول فيها".

على أن مشكلة مقدونيا، على الرغم من خصوصيتها، لا تنفصل عن كامل مشكلة البلقان، التي كادت مباراة كرة قدم بين منتخبي ألبانيا وصربيا في 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تُطيح الاستقرار الهشّ فيها. العصبيات القومية والطائفية والإثنية لا تزال تسيطر بقوة على المنطقة، في دلالة على أن الحروب المتتالية لم تكن مجرّد نهاية لحقبات، بقدر ما هي بداية لحقبات جديدة. كما حصل بعد توحيد يوغسلافيا السابقة وبعد انفصالها. وقد بدأ الوضع في البوسنة والهرسك يخرج من سياق اتفاق "دايتون" الموقّع في العام 1998، بفعل طرح الأقلية الصربية فيها اقتراحات جديدة للحكم الذاتي أو الانفصال. وبينما تنشغل كرواتيا بتكريس وجودها السياحي على بحر الأدرياتيك، تعمل سلوفينيا على اتباع سياسة "الصمت" وتفعيل الشراكة مع الشمال الإيطالي الغني، في تثبيت لتناقض وُلد بعد تفكك يوغسلافيا السابقة (1992). الغريب في التاريخ أن انتصار أي إمبراطورية أو قيصرية أو سلطنة في الشرق، يسمح لفئات دينية في البلقان بالسيطرة على باقي الفئات. وحين كان الاتحاد السوفييتي على قيد الحياة، تسلّمت بلغراد، عاصمة صربيا الحالية، زعامة البلقان، وحين حكم العثمانيون (الأتراك) كانت ساراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك قُبلة البلقان. أما اليوم فالغاز جمع الروسي والتركي في البلقان لكن المشاكل مستمرة.

اقرأ أيضاً: قوميات أوروبا... 37 "اسكتلندا" في القارة العجوز

دلالات
المساهمون