06 سبتمبر 2022
عشية مات الزعيم
تحيل مأساةُ الشعب الجزائري اليوم، ومهزلةُ حكامه، المتابعَ إلى قصة ساخرة للكاتب السوري، وليد معماري، عنوانها "عشية مات الزعيم" (أيَّام كان لمعماري زهوه الثوري)، ونشرتها مجلة "دراسات اشتراكية" أواسط الثمانينيات، خلال أو بعيْد مرض حافظ الأسد الذي كان يمسك سورية بقبضة أمنية رهيبة، فاقت قبضة كل دكتاتور سبقه أو عاصره. وقد مرَّت القصة، على الرغم من رموزها الدلالية الواضحة، عبر تلك المجلة التي لم تكن تخضع لرقابة مباشرة، (يصدرها الحزب الشيوعي السوري، ويوزّعها على أعضائه وأصدقائه، فقد كان لا يزال يتمتع بشيء من توهج). إضافة إلى أنَّ الكاتب قدَّم قصته على أنها مترجمة عن اللغة الصينية، ما يبعد رموزها عن واقعنا..
تحكي القصة عن مهندس يعود إلى بلاده بعد إنهاء دراسة الفيزياء في بلد متقدم، ليعيّن في القصر الرئاسي مشرفاً عامَّاً على شؤون الكهرباء والميكانيك، وفي واقع الحال، لم يكن لديه عمل مطلقاً. وهكذا ظلَّ الرجل يقضي أيامه في التسالي، وشرب الشاي، إلى أن جاء يوم برزت فيه أهميته الفائقة، لا في القصر فحسب، بل في حياة البلاد كلها، وفي تحديد مصيرها ومستقبلها، كما قيل له.. إذ صادف موت الزعيم قبل يوم واحد من يوم عيد البلاد الوطني المسمى بـ "عيد النمر"، حيث لا بد للزعيم، بحسب تقاليد البلاد، من التحدث بهذه المناسبة السعيدة ومقابلة شعبه بالصوت والصورة..! وتحار الحاشية المقرّبة من الزعيم، (الدولة العميقة؟) والمتمثلة بكبار الضباط والمستشارين في القصر بهذا الأمر الطارئ، لكنها، وبعد مشاوراتٍ، تجد ضالتها عند ذلك الموظف العاطل من العمل، فيعْلِمُه أحدهم بحقيقة موت الزعيم، ويطلب منه السرِّية، والمساعدة بأي شكلٍ يراه لتمرير الخطاب، وبعدئذٍ سيجدون الوقت الكافي لمعالجة مأساة الشعب بفقده زعيمه. وبالفعل يحلُّ الموظف المشكلة بقدرته على تحريك
فكّ الزعيم السفلي، ويديه، ميكانيكياً بواسطة أسلاك تعمل على الكهرباء، مع مرافقة صوت الزعيم المأخوذ من خطب سابقة، والمنسّق جيداً بحيث يبدو مباشراً.. وهكذا يظهر الزعيم في الوقت المحدد، بعد أن يقوم كل ضابط بمهمته، فمن تغسيل جثمان الزعيم إلى حلاقة ذقنه وتلبيسه ثيابه الرسمية.. ومن ثمَّ تقديمه إلى الجمهور "الغافل..".
والقصة ذات دلالات واضحة تتناول كل أمراض المستبد، وأدواته، وسلوكه المزري. ولا تنطبق دلالاتها على حال حافظ الأسد ونظامه فحسب، بل يمكن سحبها على معظم الأنظمة العربية، وقادتها الذين يعتقدون، بل لعلَّهم على قناعةٍ بأن شعوبهم لا تُحكم إلا بقبضة حديدية كما كان يعتقد حافظ الأسد، إذ كان دائماً يستذكر مقولة شكري القوتلي لجمال عبد الناصر فور توقيعه على وثيقة تنازله عن حكم سورية، مبرّراً أسلوبه في الحكم: "أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس؟ أنت أخذت شعباً يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المائة من ناسه أنهم زعماء. ويعتقد 25 في المائة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة في المائة على الأقل أنهم آلهة". (عن صلاح منتصر، في صحيفة الأهرام 9/8/2017، نقلاً عن مقالة لمحمد حسنين هيكل في "الأهرام" في 27 /10/1961) أي بعد الانفصال بثلاثين يوماً. (ونقل باتريك سيل على لسان الأسد جزءاً من هذا الكلام في كتابه "حافظ الأسد الصراع على الشرق الأوسط"). والحقيقة أنَّ شكري القوتلي في قوله ذاك امتدح شعبه، معتزاً به، وبمهاراته، وقدراته على اجتراح المعجزات إن أتيحت له الظروف المناسبة، والساسة الملهمون، لكن حافظ الأسد فهم الأمر على أنَّه شعب قويٌّ شديد المراس، يحتاج إلى شكْمٍ، وهذا هو حال تفكير المستبدّين أجمعين.
ويتصوّر الحكام المستبدون أن شعوبهم لا تستطيع العيش من دونهم، فهم وحدهم الذين يؤمنون لهم الأمن والاستقرار ورغيف الخبز. ولعلَّ أقرب مثال اليوم هو الإصرار على ترشيح رئيس الجزائر عبد العزيز بو تفليقة لولايةٍ خامسة، وهو على ما هو عليه من وضع صحي. ويرى بوتفليقة، وبحسب بيان ترشحه، أن استمراره بالحكم سيعينه على الشفاء من مرضه (!)، ولا تدلّ هذه العبارة على غير أن بوتفليقة في كفّة والجزائر كلها بكفة. ولكن، هل يتعلق الأمر بالرئيس الجزائري وحده، أم إن الأمر ينسحب على حكام كثيرين؟ هذا هو الرئيس السوداني، عمر البشير، انقلب على حكم مدني، قبل ثلاثين سنة، وعلى الرغم من فشله السياسي والاقتصادي والاجتماعي يدفع اليوم أكثر من 294 برلمانياً من حزب المؤتمر الوطني، حزب سلطته، ليعملوا على تعديل الدستور بحيث يفسح له في المجال ليحكم السودان أطول وأطول.. الأمر الذي دفع الشعب السوداني، وطلائعه، من معلمين وأطباء ومهندسين ونساء كثيرين، إلى الانتفاضة السلمية، ولمواجهة قوى الأمن بصدور عارية، وتقديم عشرات الضحايا عربوناً لحرية السودان وديمقراطيته، وتنميته، ومن أجل عيش كريم لشعبه.. وهذا أيضاً عبد الفتاح
السيسي الذي جاء بانقلاب عسكري على رئيسٍ تم انتخابه باقتراع ديمقراطي، فلم يتركه للشعب ليقول كلمته به بعد إكمال مدة رئاسته، وخصوصا أنَّ هذه الرئاسة جاءت من ثمرات ديمقراطية الربيع العربي الذي لم يجهضه إلا هؤلاء المستبدّون.. ها هو السيسي يسعى اليوم أيضاً لا لتعديل الدستور من أجل الترشح لفترات مقبلة، بل لزيادة عدد سنوات الحكم، وكأن الدساتير لا توضع لهداية الدولة وإدارة شؤونها على نحو أمثل، بل لتتلاعب بها أهواء العسكر والمستبدين. ولا يتسع المجال للاسترسال، فكثيرون ينهجون النهج نفسه، وكم شاهدنا ممن يسارعون قبل أن يختطفهم الموت إلى ضمان توريث أبنائهم، متجاوزين أسساً وقواعد سارت عليها دولهم عقوداً.
وعودة إلى قصة وليد معماري ومحتواها ودلالاتها، وإلى "الدولة العميقة" التي غالباً ما تكون في الدول المتقدمة مؤسساتِ وأجهزةً وقوانين موجودة على أسس ديمقراطية، تسهر على أمن أوطانها، وراحة شعوبها، فيما هي في مناطقنا العربية طغم تأكل من قوت الشعب الأخضر واليابس، وتمثِّل بالوطن والمواطنين، بعد أن تكون قد التفت حول واحد من المرضى بحب الذات وتضخمها، وائتلفت معه، مستغلةً ذلك الضعف، لتفتك بالوطن وأهله.
وتبقى الأسئلة البديهية تتناسل من قهر مزمن مرير، ومن هزائم مذلّة تتراكم، ومن ثروات هائلة تهدر وتبدّد.. إلى أيِّ قاع نحن واصلون؟ وهل ثمّة أدنى مما صرنا إليه؟ أتراها الصحوة تصغي إلى صوت الحياة وحركتها، ولا بد أن يسبق نهوضَها تخبطٌ وصراعٌ يرافقهما دم وخراب وفظائع؟ إنها الصحوة، ولا بد من قراءتها بعقل، وملاقاتها بمحبة.
تحكي القصة عن مهندس يعود إلى بلاده بعد إنهاء دراسة الفيزياء في بلد متقدم، ليعيّن في القصر الرئاسي مشرفاً عامَّاً على شؤون الكهرباء والميكانيك، وفي واقع الحال، لم يكن لديه عمل مطلقاً. وهكذا ظلَّ الرجل يقضي أيامه في التسالي، وشرب الشاي، إلى أن جاء يوم برزت فيه أهميته الفائقة، لا في القصر فحسب، بل في حياة البلاد كلها، وفي تحديد مصيرها ومستقبلها، كما قيل له.. إذ صادف موت الزعيم قبل يوم واحد من يوم عيد البلاد الوطني المسمى بـ "عيد النمر"، حيث لا بد للزعيم، بحسب تقاليد البلاد، من التحدث بهذه المناسبة السعيدة ومقابلة شعبه بالصوت والصورة..! وتحار الحاشية المقرّبة من الزعيم، (الدولة العميقة؟) والمتمثلة بكبار الضباط والمستشارين في القصر بهذا الأمر الطارئ، لكنها، وبعد مشاوراتٍ، تجد ضالتها عند ذلك الموظف العاطل من العمل، فيعْلِمُه أحدهم بحقيقة موت الزعيم، ويطلب منه السرِّية، والمساعدة بأي شكلٍ يراه لتمرير الخطاب، وبعدئذٍ سيجدون الوقت الكافي لمعالجة مأساة الشعب بفقده زعيمه. وبالفعل يحلُّ الموظف المشكلة بقدرته على تحريك
والقصة ذات دلالات واضحة تتناول كل أمراض المستبد، وأدواته، وسلوكه المزري. ولا تنطبق دلالاتها على حال حافظ الأسد ونظامه فحسب، بل يمكن سحبها على معظم الأنظمة العربية، وقادتها الذين يعتقدون، بل لعلَّهم على قناعةٍ بأن شعوبهم لا تُحكم إلا بقبضة حديدية كما كان يعتقد حافظ الأسد، إذ كان دائماً يستذكر مقولة شكري القوتلي لجمال عبد الناصر فور توقيعه على وثيقة تنازله عن حكم سورية، مبرّراً أسلوبه في الحكم: "أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس؟ أنت أخذت شعباً يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المائة من ناسه أنهم زعماء. ويعتقد 25 في المائة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة في المائة على الأقل أنهم آلهة". (عن صلاح منتصر، في صحيفة الأهرام 9/8/2017، نقلاً عن مقالة لمحمد حسنين هيكل في "الأهرام" في 27 /10/1961) أي بعد الانفصال بثلاثين يوماً. (ونقل باتريك سيل على لسان الأسد جزءاً من هذا الكلام في كتابه "حافظ الأسد الصراع على الشرق الأوسط"). والحقيقة أنَّ شكري القوتلي في قوله ذاك امتدح شعبه، معتزاً به، وبمهاراته، وقدراته على اجتراح المعجزات إن أتيحت له الظروف المناسبة، والساسة الملهمون، لكن حافظ الأسد فهم الأمر على أنَّه شعب قويٌّ شديد المراس، يحتاج إلى شكْمٍ، وهذا هو حال تفكير المستبدّين أجمعين.
ويتصوّر الحكام المستبدون أن شعوبهم لا تستطيع العيش من دونهم، فهم وحدهم الذين يؤمنون لهم الأمن والاستقرار ورغيف الخبز. ولعلَّ أقرب مثال اليوم هو الإصرار على ترشيح رئيس الجزائر عبد العزيز بو تفليقة لولايةٍ خامسة، وهو على ما هو عليه من وضع صحي. ويرى بوتفليقة، وبحسب بيان ترشحه، أن استمراره بالحكم سيعينه على الشفاء من مرضه (!)، ولا تدلّ هذه العبارة على غير أن بوتفليقة في كفّة والجزائر كلها بكفة. ولكن، هل يتعلق الأمر بالرئيس الجزائري وحده، أم إن الأمر ينسحب على حكام كثيرين؟ هذا هو الرئيس السوداني، عمر البشير، انقلب على حكم مدني، قبل ثلاثين سنة، وعلى الرغم من فشله السياسي والاقتصادي والاجتماعي يدفع اليوم أكثر من 294 برلمانياً من حزب المؤتمر الوطني، حزب سلطته، ليعملوا على تعديل الدستور بحيث يفسح له في المجال ليحكم السودان أطول وأطول.. الأمر الذي دفع الشعب السوداني، وطلائعه، من معلمين وأطباء ومهندسين ونساء كثيرين، إلى الانتفاضة السلمية، ولمواجهة قوى الأمن بصدور عارية، وتقديم عشرات الضحايا عربوناً لحرية السودان وديمقراطيته، وتنميته، ومن أجل عيش كريم لشعبه.. وهذا أيضاً عبد الفتاح
وعودة إلى قصة وليد معماري ومحتواها ودلالاتها، وإلى "الدولة العميقة" التي غالباً ما تكون في الدول المتقدمة مؤسساتِ وأجهزةً وقوانين موجودة على أسس ديمقراطية، تسهر على أمن أوطانها، وراحة شعوبها، فيما هي في مناطقنا العربية طغم تأكل من قوت الشعب الأخضر واليابس، وتمثِّل بالوطن والمواطنين، بعد أن تكون قد التفت حول واحد من المرضى بحب الذات وتضخمها، وائتلفت معه، مستغلةً ذلك الضعف، لتفتك بالوطن وأهله.
وتبقى الأسئلة البديهية تتناسل من قهر مزمن مرير، ومن هزائم مذلّة تتراكم، ومن ثروات هائلة تهدر وتبدّد.. إلى أيِّ قاع نحن واصلون؟ وهل ثمّة أدنى مما صرنا إليه؟ أتراها الصحوة تصغي إلى صوت الحياة وحركتها، ولا بد أن يسبق نهوضَها تخبطٌ وصراعٌ يرافقهما دم وخراب وفظائع؟ إنها الصحوة، ولا بد من قراءتها بعقل، وملاقاتها بمحبة.