30 اغسطس 2015
عشر سنوات على رئاسة عباس
لا يمتلك الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، كاريزما سلفه الراحل ياسر عرفات، لكنه يترك بصمة خاصة له على حقبة مهمة تمر بها القضية الفلسطينية. وربما ليس سهلاً القول إنه حقق إنجازات كبيرة، كالتي حققها أبو عمار، إلا أن طول الفترة التي حكم فيها، وشهدت أحداثا جساما، وطريقة تعامله مع تلك الأحداث، كفيلان بأن يضعاه في مصاف زعماء لعبوا أدوارا في قيادة شعوبهم. وقد لا يعترف له بذلك كثيرون، إلا أن المرحلة اقتضت أن يكون أبو مازن على رأس الهرم السياسي الفلسطيني، وأن يحافظ على هذه المكانة طويلاً، من دون أن يتمكن الأصدقاء، أو الخصوم، من زحزحته عن منصبه، ومن دون أن يتمكن أي طرف من تقديم بديل قادر على إدارة دفة الأمور في مرحلةٍ، هي من أدق المراحل التي تمر بها القضية الفلسطينية.
عشر سنوات على حكم الرئيس الفلسطيني، والأوضاع تراوح مكانها من حيث القدرة على تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، بعد الانسداد الذي واجهته مسيرة التسوية. عشر سنوات، والمحاولات مستمرة لحشر إسرائيل في الزاوية، وتأليب الرأي العام العالمي عليها بسبب ممارساتها، وبسبب عدم تجاوبها مع استحقاقات عملية السلام. وفي هذه السنوات، لم يألُ أبو مازن جهدا لتحريك المياه الراكدة، والدفع باتجاه التسوية، وحث المجتمع الدولي على إلزام إسرائيل بتقديم ما عليها من استحقاقات عملية السلام، من دون جدوى. حتى أن الولايات المتحدة الأميركية، الراعي الوحيد لعملية السلام، نفضت يدها من القضية الفلسطينية، من دون أن تعلن ذلك صراحة. انتكست الجهود الأميركية، ووصلت إلى طريق مسدود، وخصوصاً مع التعنت الإسرائيلي. ولكن لم تُعلن الولايات المتحدة، بطبيعة الحال، أنها فشلت، وأن سبب فشلها الموقف الإسرائيلي.
كل هذا، والرئيس الفلسطيني يبدي صبرا يفوق كل توقع، ويعطي الفرص تلو الفرص، ويواصل جهوده من دون كلل لإحراز تقدم أو اختراق في عملية السلام، أو انتزاع أي تعهد إسرائيلي أو أميركي أو دولي بإنهاء الاحتلال، أو تحقيق أي إنجاز يصب في الهدف الأساس، وهو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، على الرغم من ملل الشعب الفلسطيني، ومن انتقادات ووجه بها من القوى الفلسطينية، بل والهجوم اللاذع أحياناً كثيرة، واتهامه، أحياناً أخرى، بالتساوق مع السياستين، الأميركية والإسرائيلية، خصوصاً مع استمرار التنسيق الأمني وكبح جماح العمل المقاوم في الضفة الغربية.
وعلى الرغم من انسداد الأفق السياسي في إمكانية تحقيق تسوية حول قضايا الحل النهائي، وعلى الرغم من فشل الجهود المتتالية، وكان آخرها جولة وزير الخارجية الفرنسي، لبحث إمكانية استئناف المفاوضات، إلا أن الرئيس الفلسطيني، ومن حوله قيادة السلطة ومنظمة التحرير، لم يتخل عن هذا الخيار، ولم يقلب الطاولة في وجه إسرائيل بالتخلي عن مشروع التسوية والانتقال إلى مربع المقاومة، خياراً استراتيجياً في الصراع مع إسرائيل، ربما لأنه خيار لم يُفضِ بعد إلى فتح أفق بديل، يمكن أن يكون محل إجماع فلسطيني. لكن المأزق الحقيقي للرئيس الفلسطيني يتمثل في استحالة استمرار حالة الجمود السياسي، في وقت تواصل فيه إسرائيل إجراءاتها الاستيطانية، واستمرار اعتقال المواطنين، وغير ذلك من الانتهاكات لحقوق الشعب الفلسطيني.
من هنا، برزت أمام الرئيس الفلسطيني مشكلة إنهاء الانقسام التي تقف دونها شروط أميركية وإسرائيلية، فعلى الرغم من استمرار إسرائيل بإجراءاتها التعسفية بحق الشعب الفلسطيني، فإنها تضع "فيتو" كبيرا أمام المصالحة، إلى درجة أنها وضعت العراقيل أمام حكومة التوافق التي يرأسها رامي الحمد الله، وحجزت أموال الضرائب شهوراً طويلة، قبل أن تُفرج عنها بضغوط أميركية وأوروبية، ليس لشيء، سوى أنها حكومة حظيت بموافقة حركة حماس. ولكن، من المهم الإشارة، وبصراحة ووضوح، إلى أن الانقسام الفلسطيني ما زال مستمرا، وأن التواصل بين فتح وحماس مقطوع، أو شبه مقطوع، وأن تنفيذ بنود المصالحة التي توافقتا عليها لم يتم. ففي حين ترى السلطة أن استمرار سيطرة حماس قوة فعلية على الأرض، على قطاع غزة، من أهم العوائق في طريق المصالحة، فإن حماس ترى أن استمرار السيطرة الأمنية للسلطة في الضفة وحملات الاعتقالات بحق عناصر حماس تحول دون تنفيذ الاتفاقات بين الطرفين. وهذا يؤكد أن المصالحة كانت حبرا على ورق، وكلاماً في الهواء، لا رصيد له على أرض الواقع.
ويمكن للمراقب أن يرى بوضوح تردد الرئيس الفلسطيني في المضي في طريق المصالحة، والتي من المؤكد أنها ستواجَه بردود فعل أميركية وإسرائيلية عنيفة، وتنعكس على الوضع السياسي والاقتصادي الفلسطيني الذي يعتمد أساسا على الدعم الغربي والمساعدات المالية الخارجية. فتفعيل الإطار المؤقت لمنظمة التحرير، وكذلك دعوة المجلس التشريعي للانعقاد، وغير ذلك من خطوات نصت عليها اتفاقات المصالحة بين فتح وحماس، لا تحتاج سوى إلى مراسيم رئاسية، إلا أن الخوف من العزلة السياسية، والحصار الاقتصادي، يجعل من المتعذر على الرئيس إصدارها. وفي المقابل، الأمر الواقع في غزة، أي سيطرة حماس على مفاصيل الحياة فيها، وترددها في تسليم قيادة الأجهزة الأمنية في غزة، والمعابر، يمثل مشكلة للرئيس الفلسطيني، تحول دون التقدم نحو المصالحة. وهناك جوانب أخرى تعرقل مسيرة المصالحة، مثل: التنسيق الأمني، مشكلة موظفي غزة، سلاح المقاومة في غزة، وغير ذلك من الملفات. وهذه أمور ليس من السهل حلها بقرار من الرئيس أبو مازن، بل تحتاج إلى توافق، وتنازلات من الطرفين، لكي يصلا إلى نقطة التقاء.
خلاصة القول أن محمود عباس يعمل في واقع تجتاحه تيارات وأحداث جسام على الصعيد العربي، وحسابات معقدة على الصعيد الدولي، وواقع مأزوم على الصعيد الفلسطيني. وعلى الرغم من أنه قاد الشعب الفلسطيني عشر سنوات، شهدت فوز حماس في انتخابات حرة ونزيهة، مثلت زلزالا سياسيا على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي، وكذلك انتهاء ولاية الرئيس والمجلس التشريعي، ثم ثلاثة حروب طاحنة شنتها إسرائيل على غزة، وأحداثا عربية أحرقت الأخضر واليابس، وقدرته على الاستمرار في ظل هذه الأحداث، إلا أن خيارات البديل كانت معدومة. فلغاية الآن، لم يتمكن الصديق أو الخصم من طرح بديل عن الرئيس الفلسطيني، أو حتى تسمية نائب له، وهو الرئيس الذي يبلغ ثمانية عقود.
نجح الرئيس الفلسطيني في أحد الملفات المهمة في فترة رئاسته السلطة، وهو الملف المتعلق بكشف القناع عن الاحتلال الذي خدع العالم عقوداً طويلة، وجعل القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية. فمن الواضح أن "أبو مازن"، وبعد أن أدرك أن معظم الأبواب موصدة أمامه، تمكن من الدخول بكل ثقله في المعركة السياسية على الساحة الدولية. وقد امتلك الجرأة للوقوف في وجه الرفض الأميركي والإسرائيلي في مسألة اعتراف الجمعية العمومية للأمم المتحدة بفلسطين دولة بصفة مراقب في المنظمة الدولية، فضلا عن توقيع معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وغير ذلك من الخطوات، حتى أن توقيع فتح برئاسة "أبو مازن" على اتفاق المصالحة مع حماس مثل تحديا للموقفين، الأميركي والإسرائيلي، إلا أن الاتفاق ما زال حبراً على ورق.
ومع بداية عقد جديد للرئيس أبو مازن في الحكم، يعيش الشعب الفلسطيني أزمة شرعية نتيجة تجاوز جميع المؤسسات السياسية الفلسطينية مدتها القانونية، وغير ذلك من الإشكالات والتحديات الكبيرة. والمدخل المهم لحل إشكاليات هذا الواقع، والرئيس يمكن أن يُخلد اسمه قائداً تاريخياً لشعبه، إذا تمكن قبل مغادرته كرسي الرئاسة أن يحقق أمرين: توحيد الشعب الفلسطيني من خلال توحيد قواه السياسية وإنجاز المصالحة الوطنية. ومأسسة السلطة الفلسطينية، والاحتكام إلى النظام والقانون، وإنهاء حالة التفرد والاستحواذ والشخصنة في مواقع كثيرة في السلطة، وتثبيت قواعد النظام السياسي الديمقراطي، بما يشمل ذلك من إطلاق للحريات، وتداول للسلطة، واحتكام إلى صندوق الاقتراع.