عزمي بشارة .. بوصلة في الفكر والممارسة

06 ابريل 2014

عزمي بشارة .. مسيرة فكرية وكفاحية

+ الخط -

نحن الجيل الذي تربى على فكر عزمي بشارة، لا نريد تقديسه، ولا تبجيله، ولا أَن نحمّله أَكثر مما يحمل. وهو أيضا، مع احترامه الرموز، وإدراكه مكانها ومكانتها، لا يحب أَن تتربع على عرش الفكر والممارسة وديناميكية الحياة.
لكن، في العصر الرديء، أَقل ما ينصف بشارة يعلو به عالياً، فوق المناخ السائد، المليء بارتعاشات الأيادي، وتذبذبات المصالح، وجمود الأفكار.

ربما لم أَكن "صغيرة" بما فيه الكفاية، لأقول "الجيل الذي تربى". لكنني، كنت كذلك، ضمن مشهد سياسي، غير مقتنع بطروحاته السياسية، وبربطه بين "القضايا الصغرى"، العالقة بين الإنسان وحياته اليومية، و"القضايا الكبرى" التي تشعر الإنسان بقيمته، وإن تضاءلت جودة حياته.

كنت "صغيرة" على الممارسة السياسية، وعلى الانخراط في الهم، وعلى "المصالحة"، أو "المزاوجة" بين "الخاص" و"العام"، وما بين الفرد والجماعة، وما بين التبني العفوي للقيم والتنظيم الجاد للنضال من أجلها. 

كنت في العشرين، عندما حضرت أول محاضرة لبشارة، وغيّرت وجه حياتي، إلى الأبد.
"هذا واحد غير شكل"، قلت لصديقتي. و"الغير شكل" الذي قدمه بشارة لنا هو ما نحتاجه شعباً، وأفراداً، وبرنامجاً سياسياً، وأخلاقاً في السياسة.

بعد عشرين سنة، لاطم فيها الواقع بشارة، بقدر ما لاطم بشارة الواقع، نستطيع أن نقول إن الثبات في القيم، والإبداع في الفكر، والتحدي في الممارسة، هو ما يقدمه بشارة لشعبه، صامتاً، مترفعاً عن الضجيج الهائل الذي تحدثه الحركة النشطة في نفوس من يهوون الركود.

لم تكن إسرائيل أول من "نفت" عزمي بشارة، ولم يكن الصدام معها الأول، ولا الصدام الوحيد الذي ميز بشارة. صحيحٌ أن "اصطدام" بشارة مع إسرائيل كان اصطداماً غير مألوف لها ولنا، وغير خاضعٍ لقاموسها السياسي المعروف، على خلاف الاصطدامات الأخرى التي عهدتها. وصحيحٌ أَن عزمي مثَّل مشروع نزع الشرعية الأخلاقية والسياسية عن الدولة "كدولة يهودية"، وطرح نظاماً بديلاً لها. وصحيحٌ أن "التجمع"، الحزب الذي أسسه بشارة فكرياً، وكان من بين مؤسسيه تنظيميا، جسَّد عملياً اصطدام الصهيونية بمشروع الضحية، ليس أَقل من اصطدام الضحية بمشروع قامعها. لكنَّ مسيرة بشارة حملت سلسلة متواصلةً من الاصطدامات، شبه الحتمية، أَو، على الأقل، المنطقية بالكامل، وبأطر لم يتوقع أَحد أَن يصطدم بها. أطر، بان، في أول الطريق، أنه على وفاقٍ معها. لكن، سرعان ما اتضح أن الوفاق لم ينتج من مصالحة، بقدر ما نتج من "تأجيل النقاش".

اصطدم بشارة، في بداية طريقه، مع الحزب الشيوعي الذي ترعرع فيه شاباً، في قضايا شكلت الأعمدة الفكرية لحزب التجمع لاحقاً، وهي قضية الهوية الوطنية، وسؤال الديمقراطية. أما في الأولى، فقد اصطدم مع قادة الحزب الشيوعي لرفضه رفع العلم الإسرائيلي في نشاطات الحزب، ومؤتمراته، وحتى تظاهراته، ولرفضه، أيضاً، "النشيد الوطني الإسرائيلي"، وفيما يتعلق بالديمقراطية، هاجم بشارة بحدة الأنظمة الشيوعية، بصفتها قامعة للحريات، ومعادية للتطلعات الإنسانية للتقدم والرفاه.

في حينه، فُسر صدام بشارة الأخلاقي والفكري، من النظام الحزبي القامع للتفكير الحر، على أنه ابتعاد عن "المبادئ"، وإخلال بالوفاء "للنظام الأب"، وكأنه نوع من الردة، السائدة في فكر الأصوليين الدينيين والعلمانيين وخطابهما على حد سواء. ونحن نشهد أن من يرون في الحزب "مبدأ"، أو بالنظام السياسي "مبدأ"، أو بحركة ما "مبدأ"، أو بأيديولوجيا ما "مبدأ"، هم أنفسهم أصحاب "الفكر التخويني".

وفي هذا التخوين بالذات، تأكيد على مبدئية بشارة، والتي قادته، إلى أَلا يكون مع نظامٍ بعينه، أو سلطةٍ بعينها، أو حزبٍ بعينه، مهما احتضنه هذا الحزب/السلطة، أو صادقه، ومهما أَشادوا به. فالمسألة، بالنسبة له، ليست المكانة التي يحظى بها، داخل الحزب/ السلطة، بل تفاعل هذا الحزب/السلطة مع آمال الناس، وتطلعاتها.

كان صراع بشارة الشاب مع الحزب الشيوعي عضوياً، صراعاً يعد بشارة أَحد أطرافه المباشرين، وكان صراعه مع "الدولة العبرية" عضوياً. بالتالي، استطاع بشارة أن يملك لحظة التمرد على الحزب، وهو ما زال في العشرينيات من عمره، تماماً كما استطاع أن يملك "تحدي" الدولة العبرية، ففي الحالتين، هو جزء عضوي من تلك الصراعات. لكن، هناك صراعات كثيرة أخرى تهمنا، لكننا لسنا جزءاً عضويا منها، ومع ذلك، حين تنفجر، تطرح علينا السؤال الصعب حيالها.

ترك بشارة الحزب الشيوعي الإسرائيلي شاباً، عندما نضج سؤالا الهوية العربية الفلسطينية والديمقراطية في تفكيره، تماماً كما انحاز بشارة لثورة السوريين، عندما نضج سؤال الحرية في وجدان السوريين ووعيهم، وتحول إلى فعل لا يمكن إلا اتخاذ الموقف حياله. ولم يملك بشارة أن يحدد "وقت النضوج" هذا، وتوقيت تأجيج مطالب الشعوب. شعوب العالم هي من تحدد ثوراتها، وعندها، نحن نملك، فقط، أن نمتحن في انحيازنا إلى أطراف الصراع. والدنيا لا تضعنا، دائماً، في سؤال الصراع، لكي نقول رأينا فيه، وموقفنا منه. ما يعني أننا نملك حريتنا في اختيار مواقفنا، لكن تملك "الدنيا" في حالات كثيرة توقيت الإصغاء لها.

وفي حالة الثورة السورية، وجه لبشارة، وتحديداً لبشارة، خلافا لكل مفكري العالم العربي وسياسييه، السؤال الصعب: سؤال الثورة، ومن وجه هذا السؤال لبشارة -الذي كان "على علاقة وطيدة وجيدة" ببشار الأَسد شخصياً- هو ليس أقل من الشعب السوري نفسه. وكان الأسهل لبشارة، أن يناقض نفسه، وأَن يخالف مواقفه من الثورات المصرية واليمنية والتونسية، والتي ألقى بثقله الفكري والرمزي مع شعوبها، في معركتها من أجل الديمقراطية. لكنه، كان حتى ذلك الوقت، يذكر معاناة الشعب السوري في محاضراته في دمشق وحلب واللاذقية، وينتقد الفساد والسلطوية، وحتى الأسر الحاكمة. كتب عن تحالف الأسر الحاكمة وأجهزة الأمن ورجال الأعمال الجدد في كتابيه: "المسألة العربية"، و"أن تكون عربياً في أيامنا" في العامين 2007 و2008.

وبالنسبة لبشارة، ليس الانحياز للشعب السوري ضد من يطلق النار عليه في تظاهراته السلمية أمراً يحتاج تفسيراً. وقبل أن "نفسر"، لمن يحتاج تفسيراً، انحياز بشارة للشعب السوري، علينا أن نفسر، أيضا لمن يحتاج تفسيراً، "انحيازه" للمقاومة، وعبرها للنظام السوري، قبل سؤال الثورة.

"انحاز" بشارة لمواقف النظام السوري، كفلسطيني يواجه سؤال الهيمنة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، وسؤال المقاومة والتحرر من الهيمنة، وسؤال رفض شروط "السلام" الإسرائيلي-الأميركي. وتلك "أسئلة الصراع" في المنطقة التي ملك بشارة، بحكم موقعه فلسطينياً يعيش في الدولة العبرية، أن يطرحها ويفعلها ويقودها. ولم يكن نضال بشارة مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وعلاقته مع النظام السوري، نضالاً وعلاقةً في مواجهة الشعب السوري، بل كان نضالاً في مواجهة إسرائيل والمشروع الأميركي في المنطقة.
وقد استخدم العلاقة مع سوريا، في حينه، بهدف لم الشمل بين عرب الداخل واللاجئين الفلسطينيين في سوريا، في ملحمةٍ، ما زلنا نذكر أثرها الإنساني على الناس عندنا، ولم يكن من مهامه السياسية، كقائد فلسطيني، أن يخوض ثورة عن الشعب السوري من هنا، من الداخل. وعندما وضعه الشعب السوري نفسه، أَمام سؤال حريته، اختار بشارة مبكراً مواجهة النظام القامع لشعبه. فحرية الشعوب العربية هدف ذاتها، وهي في الوقت نفسه الطريق الثوري الصحيح لمواجهة إسرائيل.

انحاز بشارة بشكل قاطع للثورة وقيمها ومبادئها في عامها الأول، وعبّر عن غضبه على النظام الرافض أي إصلاح، وحذر من أن اختيار النظام الحل العسكري العنيف سوف يهدد سوريا والمشرق العربي كله، ويفتح المسألة الطائفية من جديد.

كان يملك عزمي أَن يهاجم الأنظمة العربية وهو من داخل إسرائيل، ثم يعود فيتملقها وهو منفي إليها. لكنه اختار الطريق المبدئي والصعب: أَن يتواصل معها من داخل إسرائيل، متحدياً إسرائيل، ثم يعود وينتقدها، وهو في منفاه فيها.

وجهت تلك البوصلة القيمية بشارة إلى أن ينظر للديمقراطية حتى قبل الثورات العربية، ونظر ضمن فكره العلماني لضرورة قبول الإسلاميين مبادئ الديمقراطية، لكنه وقف، في الوقت نفسه، ضد كل انقلاب على المسار الديمقراطي، بحجة التخلص من الإسلام السياسي الذي تمت شيطنته، في مسار انقلابيٍّ على قيم الثورة نفسها. وأكد بشارة أنه، في مرحلة التحول الديمقراطي، وهي مرحلة ضرورية لتثبيت قيم الثورة ومنجزاتها، لا يتم فرز الناس بين إسلاميين وعلمانيين، بل يتم فرزهم بين ديمقراطيين (سواء علمانيين أو غير علمانيين)، وغير ديمقراطيين. فقط هذا الفرز، يثبت الثورات، ويجهض الثورات المضادة.     
 
إن الانحياز للعقل، وللعدالة، وللشعوب المقهورة، والانحياز في وجه الاستبداد، هو البوصلة التي تحكم عزمي بشارة في فلسطين وغيرها. تتغير الصراعات المفتوحة، وتتغير جهات الصراع والمعسكرات التي يشكلها، ويبقى وحده الانحياز للمقهور، للمساواة والحرية والكرامة، ثابتاً لا يتغير. 

A831C022-2095-470C-89C1-AA310740BC2A
حنين زعبي

نائب فلسطيني في الكنيست، مواليد الناصرة، ناشطة وقيادية في حزب التجمع الوطني الديمقراطي، عملت في تدريس الصحافة والإعلام.