عزمي بشارة .. الصوت الآخَر

27 اغسطس 2020
+ الخط -

وأنت تتابع سيرة المفكّر العربي، عزمي بشارة، في فلسطين أو خارجها، تتبيّن أنّه لم يكن نصير أحد على أحد من الإسلاميّين أو العلمانيّين، ومن المتديّنين أو غير المتديّنين، ومن المتحزّبين أو غير المتحزّبين. بل كان نصير المواطن العربي على جهة الإطلاق، بقطع النّظر عن ملّته أو مذهبه أو دينه أو عرقه أو طائفته، فخطابه يصدر عن خلفيّة حقوقية أساسا، وهو مسكون بهواجس العربي وأحلامه وبقضاياه ومعضلاته على مدى عقود. وبمُراجعة مؤلّفاته، تكتشف عقلا يحاور الواقع، ويستشرف المستقبل، ويعبّر عن تطلّعات عربٍ كثيرين توّاقين إلى الحرّية والكرامة والعدالة ودولة المواطنة.

نبّه عزمي بشارة مبكّرا في كتابه "في المسألة العربية .. مقدّمة لبيان ديمقراطي عربي" إلى أنّ نقض الاستبداد وتأسيس النظام الديمقراطي مشروع يقتضي وجود قوى مدنية حيّة، تؤمن بضرورة الإصلاح وحتميّة التغيير، ويُفترض أن يكون لها برنامج مفصّل، بديلا عن سياسات النظام القائم، وأن تكون لها خريطة طريق واضحة لإدارة البلاد بعد سقوط النظام الشمولي. والملاحظ أنّ ما تعرف بالقوى الوطنية والثورية في معظم بلدان الربيع العربي (خصوصا مصر، اليمن، ليبيا) لم تحافظ على وحدة الصف بعد رحيل الديكتاتور، بل انخرطت في نزاعاتٍ بينيةٍ عقيمة، وممارسات إقصائية مقيتة، ولم تقف على أرضيّة برامجية، توافقية واضحة، فغلب التنافر على التواصل، وشاع خطاب الكراهية والتحشيد ضدّ الآخر، وغابت الخطط الإجرائية لإدارة الشأن العمراني العام، بتعقيداته المختلفة، وتعطّلت أو تأخّرت جهود الاستجابة لمطالب الناس، على نحوٍ أضرّ بمسارات الثورة والدمقرطة، ومهّد لعودة النظام القديم وصعود الثورة المضادّة. وفي كتابه "المجتمع المدني .. دراسة نقديّة"، جاء عزمي بشارة على مخاطر الارتهان للنّزعة الطّائفيّة، ومساوئ بناء المجتمع على أسس العصبيّة الفئويّة أو القبليّة أو المذهبيّة، معتبرا ذلك مؤدّيا بالضّرورة إلى تفتّت الوحدة الوطنيّة، وفتح المجال لصراع هويّاتي داخلي مقيت، يستنزف الجهد ويهدر الوقت، ويُنذر بانهيار الدّولة. وفي كتابه "أن تكون عربيّا في أيّامنا"، بحث بشارة في موقعة العربي من الحداثة، ونظّر لهويّة مواطنيّة ديناميّة فاعلة في المشهد الكوني، معتبرا أنّ استئناف العربيّ دوره في البناء الحضاري والفعل في التاريخ ممكنٌ في حال إقامة أسس دولة مدنيّة، مؤسّسية، ضامنة للحقوق والحرّيات العامّة والخاصّة، ومنظّمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس التّكليف، لا التّشريف، في دولة الحقّ والواجب.

النّاظر في مصنّفات عزمي بشارة الغزيرة، يتبيّن أنّنا إزاء مشروع فكريّ تأريخيّ، يواكب الحاضر ويتمثّله، ويتفاعل معه بالتّحليل والنّقد والنّقض والإبرام

من هنا، كان عزمي بشارة صريحا في الدّعوة إلى تحرير الإرادة العربيّة وتفكيك منظومة الاستبداد. والمزايدة عليه في هذا الشأن ومحاولات تشويهه بإصدار أحكام مسبقة وتهم مفبْركة ضدّه من بعض الثورجيين أو بعض المتأدلجين المتعصّبين أو من فلول الثورة المضادّة والأنظمة الماضوية مردودة على أصحابها، فقد جاء منجزه الفكري في تمدين الاجتماع العربي، وتحديث النظام السياسي، وتأريخه الثورات التونسيّة، والسوريّة، والمصريّة، معبّرا عن وعي دقيق بحتميّة تجاوز الأنظمة الشموليّة، وضرورة (وتأسيس) دولة ديمقراطيّة، تعيد الاعتبار لدور المواطن في الشّأن العامّ، وتنتقل بالمحكومين من كونهم رعايا وموضوع هيمنة في عصر الدّولة العربيّة القامعة إلى كونهم فواعل مدنيّة، تساهم في تشكيل السلطة، وممارستها وإنتاج هياكلها، والتّداول على إدارتها وفق ما تستوجبه مقتضيات التّنافس السّلمي التعدّدي على تسيير مؤسّسات الدّولة.

لقد وجّه عزمي بشارة خلال مسيرته الفكرية الثرّة، الطويلة، بوصلته نحو الرّاهن العربي بتعقيداته المختلفة وتحدّياته المتعدّدة، فأخذ يسائله ويحاوره ويفكّكه وينقده، ويدعو إلى تغييره، فاكتسب بذلك صفة المثقّف المنتمي إلى تيّار تحديث الفكر العربي من ناحية. واكتسب، من ناحية أخرى، صفة المؤرّخ المنفتح، المتفاعل مع واقع النّاس الآن وهنا، فبشارة، على خلاف مثقّفين عرب كثيرين، صنعوا طواحين مواجهة لا تنتهي مع الماضي، أو الذين صنعوا تماثيل للسّلف يقدّسونها، تجده صوتا تقدّميا مختلفا، لا يتّخذ مواقف مسبقةً من التّراث، ولا ينتهج نهج تمجيد السّابقين أو نهج التّحامل عليهم. بل ينطلق بإرثه الحضاري العربي، يستثمر المفيد منه لينكبّ على معالجة الحاضر، والاستعداد للمستقبل، فكان في مؤلّفاته لا يعاني من عقدة الماضويّة. بل يركّز على تمحيص الواقع اليومي المعيش عربيّا، وهو مشغل راهني، حيوي، إشكالي، لم يجد القدْر الكافي من الاهتمام لدى طيْفٍ معتبرٍ من مثقّفينا الذين استهلكهم الماضي، فقتلوه نقدا وبحثا أو قتلهم استتباعا، متناسين الرّاهن، على سبيل السّهو، أو على سبيل التعمّد، أو على سبيل اختلاف الأولويات والغايات من مثققّف إلى آخر. 

دمقرطة الدولة تقتضي دمقرطة الوعي الجمعي، ونشر الثقافة الديمقراطية في صفوف الثائرين أنفسهم

والواقع أنّ الإطناب في الانشغال بالماضي، على مشروعيته وأهمّيته، كان يُراد به، في جانب مّا، دفع المواطنين بعيدا عن مساءلة الحاضر، وعن محاسبة الحاكم، ونقد المنجز الحقوقي والتنموي المحتشم للدولة الشمولية. فعلى مدى عقود من قيام ما تسمّى دولة الاستقلال، انحسرت أدبيّات الاشتغال على نقد الموجود واستشراف المنشود، وقلّت الكتابة الموضوعية، الحُرّة والمعمّقة في ما يُعرَف بالتّاريخ الآني للاجتماع العربي. والنّاظر في مصنّفات عزمي بشارة الغزيرة، يتبيّن أنّنا إزاء مشروع فكريّ تأريخيّ، يواكب الحاضر ويتمثّله، ويتفاعل معه بالتّحليل والنّقد والنّقض والإبرام. وانتقال المفكّر العربي عزمي بشارة من العمل الفردي إلى العمل الأكاديمي المؤسّساتي، في إطار إشرافه على مراكز بحثية ومنابر علميّة وإعلاميّة جادّة، إنّما يندرج في سياق الانفتاح على مشاغل المواطن العربي، وبذل الجهد لإنتاج ثقافة تغييرية، مسؤولة وواعية، والعمل على تعزيز الإسهام العربي النوْعي في المشهد المعرفي الكوني. 

وجّه بشارة خلال مسيرته الفكرية الثرّة بوصلته نحو الراهن العربي بتعقيداته وتحدّياته المتعدّدة

ختاما، حدّث المفكّر العربي عزمي بشارة، قال: "إنّ مهمّة الثوّار لا تنتهي بإسقاط النّظام الدّيكتاتوري، بل تبدأ بعد ذلك مهمّة أصعب هي إقامة الدّولة الدّيمقراطيّة الجديدة". ودمقرطة الدولة تقتضي دمقرطة الوعي الجمعي، ونشر الثقافة الديمقراطية في صفوف الثائرين أنفسهم، وفي صفوف قوى الشدّ إلى الخلف على السواء، حتّى يدركوا أهمّية التنسيب والنقد الذاتي، ويقنعوا بقيمة التعدّدية وثقافة الاختلاف، ويعرفوا أنّ النّاس في المواطنة سواء، وأنّ المفيد مَن أفاد النّاس ونفَعهم، وخدم الصالح العام بروِيّة وعقلانية، بعيدا عن ضوضاء الشعارات الضبابية والأحكام الارتجالية وحُبّ الظهور الفارغ. والمُرجّح أنّ جهود عزمي بشارة في التّفكير والتّنوير، والإصلاح والتغيير، لم تُعْجِب هواة الاستبداد أو محترفيه، ولم ترُقْ لبعض الثورجيين الانفعاليين فانصرفوا إلى تحبير مقالات صفراء، وبثّ تصريحات مرتجَلة في ذمّ الرّجل، والتّشويش عليه في إطار ما تعرَف بصحافة التّهافت، وهي نهج مَن أعوزهم البرهان، فانصرفوا عن مجادلة الرّأي بالرّأي، ومقارعة الحجّة بالحجّة، إلى بثّ خطاب الكراهية والتهافت الذي يعيبهم، ولا ينفع النّاس لا محالة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.