في أرض الزيتونة كما يسمّيها التونسيّون، وتحديداً في المدينة العتيقة، عادةً ما تشهد المدينة حركة كبيرة على غير عادتها. لا يمكن للمار قرب أبنيتها الشاهقة والصامدة على الرغم من قساوة السنوات، وأسوارها وأقواسها، إلا أن يستحضر ذاكرة تاريخ المدينة والحياة التي عاشها الأجداد على مدى نحو 13 قرناً.
هذه المدينة التي تشهد كساداً وركوداً خلال الأيام العادية، خصوصاً في فصل الشتاء، تتحول إلى أخرى مفعمة بالحياة والسهر والأجواء الرمضانية، لتدبّ في المنطقة حركة غير عادية. تزيّن أزقة المدينة بالفوانيس الملونة، وتكتظ مقاهيها منذ حلول موعد الإفطار وحتى السحور.
يزدحم سوق"العطارين" حيث تباع العطور، وسوقا "الشاشيّة" و"البركة" اللذان يشتهران بالذهب والقصبة بالزوار. كثيرون يتوافدون على المقاهي للسهر. حتى أن البعض يحوّل محاله إلى مقاه خلال شهر رمضان لجذب العائلات التونسية.
خلال هذا الشهر، يفضل التونسيّون العيش في كنف الأجواء التقليدية القديمة. يكثرون من شرب الشاي الأخضر والقهوة والحلويات العربية. وبعد تناول الإفطار، يسهرون على أنغام الطرب الأصيل، ويستمعون إلى أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وعلي الرياحي وغيرها من أصوات الزمن الجميل. وتحلو سهرات رمضان مع آلات الكمان والعود والقانون في عدد من المقاهي، لتستمتع العائلات بالألحان التونسية والعربية.
أجواء ليالي رمضان في المدينة العتيقة، وإن كانت فرصة للعائلات التونسيّة للاستمتاع، إلا أنها تمثّل لدى فئة كبيرة من الشباب فرصة للعمل وكسب الرزق، خصوصاً أولئك الذين يتقنون العزف على آلات موسيقية مختلفة. يقول سيف كلبوسي الذي تخرّج من معهد الموسيقى قبل ثلاث سنوات، ولم يجد عملاً غير العزف مع إحدى الفرق الموسيقية في حفلات الأعراس، إنه اعتاد العمل خلال شهر رمضان. اليوم، ينتظر هذا الشهر بفارغ الصبر لأنه فرصته لادخار المال.
في كل ليلة، يتوجه إلى أحد المقاهي في سوق الشواشين، ويبدأ العزف على العود من الساعة التاسعة وحتى الواحدة بعد منتصف الليل. يقول إنّه سعيد بعمله الموسمي. يحبّ العزف الذي يوفّر له دخلاً لا بأس به، خصوصاً أنّه يعد عاطلاً من العمل. يضيف أنّ العائلات التونسية ما زالت تحبّذ السهر في "المدينة العربي" خلال شهر رمضان، لأنّها "تذكرنا بعادات وتقاليد الأسرة التونسية، وموسيقى بلادنا".
تجدر الإشارة إلى أن "المدينة العربي"، كما يسمّيها التونسيّون، أُدرجت منذ عام 1979 ضمن لائحة مواقع التراث العالمي من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وهي الجزء العتيق من تونس العاصمة، وقد تأسست عام 698 حول جامع الزيتونة. حتى اليوم، ما زالت تُحافظ على جمالها وسحرها وخصوصيّة هندستها المعمارية. لذلك، يفضّل غالبية التونسيين السهر فيها خلال شهر رمضان. في هذا السياق، يقول مروان شوشان إنّ للمدينة العتيقة طابعاً خاصاً يميّزها عن غيرها خصوصاً في شهر رمضان. هو أيضاً يعزف برفقة أصدقائه خلال هذا الشهر. على عكس كلبوسي، لا يعزف في مقهى بل في أزقة الشوارع، ويغني وأصدقاءه أغنيات شبابية وحتى طربية على طريقتهم الخاصة، ويحصلون على المال من المارة.
يشير شوشان إلى أنه بدأ العزف على آلة الكمان حين كان في الـ 18 من عمره. وعلى الرغم من انقطاعه عن الدراسة، لم يتوقّف عن العزف الذي تحوّل إلى مورد رزق بالنسبة إليه، خصوصاً في الفترات التي لا يجد فيها أي عمل. يعزف في بعض الملاهي الليلية، ويستغلّ أجواء السهر الرمضانية للعمل مع أصدقائه. صحيح أن المردود المادي بسيط، إلا أنه سعيد بعمله وسط تلك الأجواء.
في غالبية المقاهي، غالباً ما تجد عازفين. بعضهم يغنّي الأغنيات التونسية أو العربية القديمة التي يتفاعل معها الحاضرون. امتهن البعض العزف، فيما يعمل آخرون، خصوصاً خريجي معاهد الموسيقى من دون مقابل. يرتادون مقاهي المدينة العربي ويشاركون في العزف والغناء، يدفعهم حبّهم للموسيقى وأجواء السهر في ليالي رمضان.
تقول رحمة فاضل، وهي طالبة في المعهد الموسيقي في العاصمة، إنها تعزف على العود منذ نحو عشر سنوات. غالباً ما لا تستطيع العزف إلا في المعهد أو النادي الموسيقي خلال العطلة الأسبوعية. لذلك، تستغل مناسبات كهذه لممارسة هواية العزف والمشاركة في إحياء حفلات ليالي رمضان. تعزف حتى وقت السحور من دون مقابل، برفقة عدد من أصدقائها في المعهد الموسيقي.