تنتظر السجينة السياسية التونسية بسمة شاكر رؤية مغتصبها الذي اعتدى عليها أثناء اعتقالها في قبو وزارة الداخلية عام 1985، في قفص الاتهام، منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في عام 2011، بعد إحالة هيئة الحقيقة والكرامة، (حكومية مستقلة تشرف على مسار العدالة الانتقالية)، ملف قضيتها إلى دائرة متخصصة في العدالة الانتقالية بمدينة سوسة في مارس/ آذار 2018.
أخيرا وبعد انتظار دام أعواما عديدة، قررت المحكمة عقد جلسة للقضية رقم 49 في 12 ديسمبر/ كانون الأول المقبل للنظر في الدعوى، كما تؤكد شاكر لـ"العربي الجديد"، قبل أن تضيف بألم :"تفنن المغتصب في تعذيبي بإطفاء السجائر في جسدي، ومع أنه يعلم أن لديه قضية في دائرة العدالة الانتقالية لكنه غير مهتم بالأمر، وهو ما يبدو من خلال التهديدات التي أرسلها لي".
ما جرى مع شاكر، عانت منه الأربعينية خيرة المؤدب، إذ يرفض المتهم بتعذيبها بعد اعتقالها عام 1993 والذي يعمل حاليا في مركز أمني بولاية نابل، شمال شرقي تونس، الحضور إلى قاعة المحكمة المتخصصة في العدالة الانتقالية بولاية بنزرت رغم استدعائه في القضية رقم 52، كما تقول لـ"العربي الجديد"، مضيفة أنها قابلت المعتدي عليها في مقر هيئة الحقيقة والكرامة لكنه نعتها بالجنون والهذيان، ويرفض الاعتذار أو حتى الاعتراف بما حصل.
حالتا بسمة وخيرة تكررت مع 3 آلاف ضحية يرفض المتهمون بارتكاب جرائم عديدة في حقهم المساءلة أو المحاسبة وجبر الضرر ورد الاعتبار لضحاياهم من أجل تحقيق مصالحة وطنية، بحسب ما توضحه سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة.
عرقلة العدالة الانتقالية
أحالت هيئة الحقيقة والكرامة 200 قضية إلى المحاكم المتخصصة في العدالة الانتقالية في مارس 2018، ويبلغ عدد المتهمين في تلك القضايا 2000 شخصية من أمنيين ومسؤولين سابقين في وزارة الداخلية، بحسب بن سدرين، التي قالت لـ"العربي الجديد": "تم إيداع 63 ألف ملف لدى الهيئة، من بينها 47 ألف ملف، تضمنت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، "لكن المتهمين يرفضون الحضور إلى المحاكم، لاعتقاد بعضهم أنهم فوق المحاسبة، خاصة بعد تحريض نقابات أمنية لأعضائها على عدم حضور الجلسات، وهو ما تكرر في عدة بيانات، منها ما صدر عن نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، رغم أن العدالة هي الطريق الوحيد للصلح"، بحسب بن سدرين، وكذلك إفادة القاضية روضة القرافي، الرئيسة الشرفية لجمعية القضاة وعضو الائتلاف المدني لدعم مسار العدالة الانتقالية، والتي لفتت إلى أنّ الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية تعمل تحت تهديد النقابات الأمنية، والتي دعت الأمنيين إلى عدم تأمين جلسات العدالة الانتقالية، والعديد منها تعقد دون تأمين أمني، ما يمثل خطرا على قضاة الدوائر.
وتابعت القرافي في إفادتها لـ"العربي الجديد": "النقابات الأمنية سعت لإفشال عمليات تبليغ الاستدعاءات القضائية لربح الوقت، لأنه لا يمكن للمحاكمات أن تتقدم في غياب الضحايا والمتهمين بممارسة الانتهاكات". ويدعم السجين السياسي والنائب السابق نجيب مراد ما ذهبت إليه القرافي، مؤكدا أنه حضر أكثر من 70 جلسة في المحاكم المتخصصة في العدالة الانتقالية بقابس وسوسة وبنزرت ونابل وقابس، ولاحظ أن المتورطين في القتل والتعذيب في فترة بن علي يستقوون بالنقابات الأمنية التي تعتبر نفسها فوق القانون.
لماذا لم تصل الاستدعاءات القضائية؟
أوكل 48 سجينا سياسيا المحامي منجي السحباني ليتابع ملفاتهم في الدائرة المتخصصة في العدالة الانتقالية ببنزرت، لكن دعوات المحكمة لهم من أجل الشهادة ضد المعتدين عليهم خلال فترة اعتقالهم بين عامي 1990 و1996 لم تصل من المرة الأولى، ما جعل قضاياهم تؤجل لفترات مختلفة. ومن واقع خبرته، يرجع السحباني غياب المتهمين إلى عدة أسباب متكررة، يمكن حصرها في عدم دقة العناوين، لأن بعضهم مجهول المقر، وبالتالي لا تصلهم الدعوات وبعضهم توفي ومنهم من غير عنوانه، وأحيانا المكلف بتوصيل الدعوات لا يوصلها في إطار التضامن مع زملائه، وتابع: "عديد الدعوات تخرج من المحاكم، ولكنها لا تصل إلى المتهمين، وهناك من يقول إنه لم يكن يعلم بالجلسة، وهناك من يعلم ولا يحضر، وحتى الضحايا لا يعلمون بالعديد من الجلسات التي سيقدمون فيها شهاداتهم"، ومن هؤلاء خيرة المؤدب، إذ مرت 4 جلسات ولم يتم إعلامها إلا في المرة الخامسة في 28 أكتوبر الماضي عبر مركز الأمن في حي بوقطفة بمدينة بنزرت، كما تقول.
"الحقيقة والكرامة" وثقت 47 ألف ملف تضمنت انتهاكات جسيمة
ومن بين 25 متهما بالتعذيب في القضايا التي يترافع فيها السحباني حضر شخص واحد فقط، وهو مدير الأمن الوطني في عهد الرئيس المخلوع، علي السرياطي، الذي أفرج عنه في 17 مايو/ أيار 2014 بعد قضائه 3 سنوات في السجن بتهمة قتل متظاهرين خلال أحداث الثورة، بحسب المؤدب، مؤكدة أن عديد الجلادين لم يحضروا، رغم تأكيد محاميها أن المحكمة وجهت إليهم دعوات للحضور.
"وقد يضطر الضحايا إلى إرسال دعوات عبر عدول تنفيذ وعلى نفقتهم الخاصة للتأكد من وصول الدعوات وإجبار المتهمين على القدوم إلى المحكمة"، كما تقول المؤدب، وتتابع أنها وغيرها من الضحايا ما كانوا ليعلموا بموعد الجلسات لولا مسارعة محاميهم بتكوين لجنة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 من متطوعين من المجتمع المدني وبدعم من الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين لإعلام الضحايا بمواعيد الجلسات.
وحمّلت القاضية القرافي وزارة الداخلية مسؤولية التقصير الحاصل، "لأن الاستدعاءات تصدر من قسم كتابة المحكمة إلى مراكز الأمن لإيصالها إلى المعنيين بالأمر، ولكن لوحظ تأخير أو عدم إيصالها، وعادة يتم تأخير وتأجيل الجلسة، كما أن هناك استدعاءات تصل للمتهمين ولكنهم لا يمثلون أمام المحاكم بدعم من النقابات الأمنية".
لكن رياض الرزقي، المكلف بالإعلام في النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي وعضو الجبهة الوطنية للنقابات الأمنية، يعيد سبب رفض مثول أعوان الأمن أمام الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية، إلى أن أمنيين وأعوانا حوكموا بعد الثورة وبعضهم قضى عقوبة السجن، ثم تمت دعوتهم مجددا للمحاكمة ضمن مسار العدالة الانتقالية في قضايا نظر فيها القضاء العسكري، قائلا لـ"العربي الجديد": "نرفض مثول أي أمني مجددا أمام القضاء، لا معنى للمحاسبة مرتين".
ويتفق الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية التونسية خالد الحيوني مع الرزقي، مشيرا إلى أن المراكز الأمنية توصل الدعوات التي تتلقاها إلى المعنيين، ولا يمكن تحميل وزارة الداخلية مسؤولية الأمر، كما يقول لـ"العربي الجديد".
تعطل قضايا العدالة الانتقالية بسبب تنقلات القضاة في الدوائر المختصة
تلاعب الدولة العميقة
بعد فوز الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية، تعززت أسباب تجاهل المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان لمسار العدالة الانتقالية، كما تقول عضو هيئة الحقيقة والكرامة علا بن نجمة، لـ"العربي الجديد"، وتتابع: "الرئيس الراحل وحزبه نداء تونس لم يكونا مع مسار العدالة الانتقالية، ما ساهم في تكبيل عمل الهيئة وتعطيلها، حتى أن المتهمين لم يهتموا بفرصة الحضور إلى مقر الهيئة والاعتراف وطلب العفو من الضحية ثم المصالحة قبل أن تصل ملفاتهم إلى القضاء.
وتعرضت هيئة الحقيقة والكرامة لانتقادات من سياسيين ومسؤولين، لا سيما أعضاء حزب نداء تونس، الذين في أفضل الأحوال لديهم مشاعر مختلطة حيال هيئةٍ مهمتها الكشف عن فظاعات الماضي، من ضمنها الفساد، ومن أبرزهم الرئيس الراحل باجي قائد السبسي، الذي تقلد مناصب رفيعة خلال عهدي بن علي والرئيس المؤسس بورقيبة، وسبق أن أعلن خلال حملته الانتخابية الناجحة عام 2014، عن معارضته تصفية حسابات الماضي، بحسب ما قاله إريك غولدستين، نائب المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش.
بالفعل فإن منتهكي حقوق الإنسان في تونس وجدوا حزاما حماهم عبر "الدولة العميقة" وأدواتها، مثل النقابات الأمنية التي ترفض مسار العدالة الانتقالية، كما يؤكد أستاذ القانون العام والعلاقات الدولية في كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس عدنان الإمام، مضيفا لـ"العربي الجديد"، أن محاكمة المتورطين في الانتهاكات وجرائم التعذيب ستكشف وتسقط بقية الأطراف ممن يتلاعبون بمسار جبر الضرر.
"ويعني مثول هؤلاء أمام القضاء واعترافهم بالانتهاكات التي مورست حينها، تفكيك المنظومة الأمنية التي كانت تشتغل سابقا، وربما هذا قد لا يرضي من لا يزالون في العمل، ومنهم شخصيات نافذة"، كما يقول النائب السابق نجيب مراد، مضيفا أن البوليس السياسي والذي كان يراقب معارضي النظام، ما زالت عناصره موجودة حتى اليوم، والدليل على ذلك أن عديد الشهود والضحايا لا تصلهم دعوات حضور الجلسات والإدلاء بشهاداتهم أمام القضاء.
تنقلات القضاة
يعطل عدم استقرار قضاة الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية بسبب الحركة القضائية السنوية الملفات، كما تقول القاضية القرافي، وتضيف: "المحاكمة العادلة تتطلب عدم تغيير القاضي المباشر للملف"، وتتفق علا بن نجمة معها، مضيفة: "الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية ينبغي أن تتفرغ لهذا العمل، لأن القضايا معقدة وشائكة، ولكن هذه الدوائر تعمل في الوقت نفسه على ملفات القضاء العدلي، ومن شأن هذا الأمر أن يعطل الأمر نسبيا في ظل الحاجة إلى إرادة سياسية لإنجاح العدالة الانتقالية في تونس".